الحرب في أوكرانيا.. من أحرق سفن العودة..؟!

abstract Ukraine Russia international political economic relationship conflicts concept texture background

الحرب في أوكرانيا.. من أحرق سفن العودة..؟!

بديـع عفيـف

تكثر التقارير والتعليقات والتحليلات حول الحرب في أوكرانيا، ولكن تقلّ وتتراجع التوقعات حول كيفية ومتى تنتهي هذه الحرب؛ فقد وضع طرفاها حدوداً قصوى لأهدافهم وغاياتهم وطموحاتهم؛ الغرب الأطلسي ومن خلال توريط ودعم أوكرانيا، يريد تدمير روسيا وتقسيمها كما تعتقد القيادة الروسية وكما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً؛

وروسيا من جهتها تريد إبعاد حلف “الناتو” عن حدودها، وفي العمق تريد الانتقام لإهانة الغرب لها واستعادة مجدها الكبير وبالتالي، فإنّ أقلّ ما تريده هو إفشال خطط الغرب التي وردت في بيانات وتصريحات المسؤولين الغربيين؛ روسيا تحارب لألف عام كي لا يخرج الغرب في اليوم التالي وينقضّ عليها؛

الغرب لا يتحمّل خسارة الحرب في أوكرانيا بعد الخسائر التي تكبدها حتى الآن، وبعد آلاف العقوبات التي فرضها على روسيا، وبعد مشاكل الاقتصاد والطاقة التي بدأت تظهر لديه وتهدد أمن واستقرار مجتمعاته؛ وروسيا تدرك أنها إذا خسرت الحرب فإن الغرب سيمزقها كما مزّق يوغسلافيا وخرّب العراق ودمّر ليبيا وحاصر سورية؛

التصدعات في التكتل الغربي الداعم لأوكرانيا وملامح العجز بدأت تتزايد وتشي بتراجع الوحدة الغربية، بسبب كلفة الحرب.وهنا نقتبس بعض ما أوردته الصحف من عناوين وتصريحات وتعليقات، لا تغيب دلالاتها أبداً؛ فقد عنونت صحيفة “الخليج” الإماراتية أحد تقاريرها قبل أيام، قائلة: إضرابات عمالية واسعة «تخنق» الحكومات الأوروبية… بريطانيا تستعين بالجيش.. شلل في فرنسا والبرتغال.. وشرطة بلجيكا تنضم للاحتجاجات. ورأت افتتاحية الصحيفة ذاتها أنّ الوضع يوشك على الانفلات في أوروبا بسبب عاصفة الإضرابات التي تجتاح عدداً من الدول… وسط توقعات بأن تتمدد هذه الظاهرة وتكون سمة الأشهر الأولى من العام المقبل 2023.

بدورها، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية تقريراً قالت فيه إن دول أوروبا تدفع بشحنات عسكرية إلى أوكرانيا في وقت تعاني فيه من شح الذخيرة وعدم قدرتها على مواصلة الإنتاج بشكل سريع لكي تتواءم مع استخدامها المستمر. ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، تقريرا يكشف استهلاك قوات كييف خلال يومين قذائف من عيار 155 ملم، يتطلب إنتاجها شهرا كاملا.

الأمر ليس هيّناً بالطبع؛ فنحن لا نتكلّم عن الربيع العربي الذي اجتاح الدول العربية؛ الحديث هو عن دول تدعي صدارة العالم الأول!

في المقابل، وفي اجتماع ترأسه الرئيس بوتين (21/12/2022) ضم كبار القادة العسكريين، بهدف تحديد مهام الجيش الروسي في العام المقبل، قال إنّ الهدف الأساسي لعدونا الاستراتيجي هو تفتيت روسيا وتدمير قوتها. روسيا كبيرة وتمثل “تهديدا ما” للبعض. ولكن بوتين أوضح أنّ بلاده تراقب المجمع الصناعي العسكري الأوكراني، الذي “إذا لم يكن صفرا تماما، فإنه يتحرك بسرعة نحو هذا، لن يكون هناك أي احتياطيات عسكرية متبقية قريبا”. وأضاف بوتين، أن روسيا تأخذ في الحسبان وتراقب كميات الأسلحة المتبقية في المستودعات في أوكرانيا.

وذهب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف أبعد من ذلك، وأشار إلى مخاطر أن يتم تهديد بلاده، قائلاً: “إذا لم نحصل على ضمانات بأقصى قدر من الأمن تناسب روسيا، فسوف يستمر التوتر إلى أجل غير مسمى.. وسيظل العالم على شفا حرب عالمية ثالثة وكارثة نووية، لكن ستفعل روسيا كل شيء لمنع حصول ذلك”؛

أجل حرب عالمية ثالثة وكارثة نووية؛ لِما لا؟ طالما أن الهزيمة غير موجودة في قاموس القيادة الروسية، وطالما أن الهزيمة تعني نهاية روسيا كدولة موحدة؟!

أما نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل غالوزين، فأوضح (تاس 26/12/) بأن أمد الأزمة الأوكرانية طال وقد اتخذ طابعا طويل الأمد، وأي تنبؤ حول موعد نهايته أصبح الآن غير وارد. وأشار غالوزين إلى كيفية قراءة القيادة الروسية للأهداف الغربية، بقوله: “وفقا لمنطق كييف والغرب، يجب علينا الانسحاب من الأراضي المحررة، وإعادة إعمار كل ما تم تدميره، ودفع تعويضات، والذهاب إلى السجن.. وبعد ذلك فقط سيعود الأوكرانيون إلى المفاوضات”.

ماذا أيضاً..

لم يعد سراً أن الحرب في أوكرانيا غيّرت في وضع الدول واستقرارها، وبالتالي “خلخلت” العلاقات الدولية القائمة وفرضت على الجميع إعادة النظر في “تموضعهم” وعلاقاتهم ومصالحهم وأهدافهم، ويمكن الإشارة إلى متغيرات هامة أصبحت أكثر وضوحاً، منها؛

أولاً، أن العالم لم يعد أحادي القطب، وأنّ الولايات المتحدة لم تعد الحاكمة المسيطرة، وقد تراجعت هيبتها العسكرية والاقتصادية، والعقوبات التي فرضتها أخافت الأصدقاء قبل الأعداء، وهي وإن حاولت، إلا أنها لا تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. هناك لاعبون جدد على المسرح الدولي ويتحدون دورها بثبات وثقة؛ الصين وروسيا وإيران وحتى تركيا الأطلسية؛

ثانياً، أنّ أوروبا العجوز غير مستقلة عن الولايات المتحدة وغير قادرة على الفطام سياسياً واقتصاديا وعسكرياً وهي تخسر، بل الخاسر الأول في حرب أوكرانيا على جميع الأصعدة، لاسيما على الصعيد الاقتصادي بعد فقدان مصادر الطاقة الروسي الرخيصة، ما يهدد استقرار وأمن مجتمعاتها؛

ثالثاً، غذّى الغرب عن غير قصد التعاون الروسي الصيني في كافة المجالات وقرّب المسافة بين العملاقين: روسيا في مجال السلاح النووي والفرط صوتي، والصين في الاقتصاد، وهذا التقارب بدأ يجذب دولاً أخرى كانت تنتظر بديلاً عن الغرب الاستعماري المتغطرس لتبتعد عن مستعمِريها القديمين؛

رابعاً، إنّ دولاً كثيرة تنتظر بلورة العالم المتعدد الأقطاب لتعيد تموضوعها وصياغة علاقاتها وأهدافها دون خشية أو خوف، وهي تنتظر انتهاء هذه المرحلة الانتقالية الخطيرة. وفي هذا السياق، هل لنا أن نقرأ القمم العربية الصينية، والمواقف التركية والإيرانية، والتوجهات الروسية والصينية والأمريكية نحو القارة الإفريقية؟

خامساً، بدأت دول كثيرة تتخلى عن حيادها وتتجه لتغيير استراتيجياتها العسكرية والدفاعية والعودة لتحديث جيوشها وأسلحتها وترساناتها بعد الحرب في أوكرانيا. وتتصدّر اليابان وألمانيا القائمة في الإنفاق الدفاعي وشراء الأسلحة.

الحرب في أوكرانيا سبّبت نوعاً من الفوضى في العلاقات الدولية وحالة من الخوف وعدم اليقين حول الحاضر والمستقبل، ولا يستطيع أحد الجزم بما سيكون عليه غد العالم وأمنه واستقراره. وفي حرب أوكرانيا الطويلة الحدّية، يبدو أنّ جميع الأطراف أحرقوا سفن العودة رغم ضبابية المشهد وخطورته..!!