ما تخفيه حوارات “التطبيع” بدأ يطل برأسه ,,, بقلم : بسام رجا

ما تخفيه حوارات
ما تخفيه حوارات "التطبيع" بدأ يطل برأسه ,,, بقلم : بسام رجا

خفتت أضواء المدن والعواصم وتسرّبت في مائهما صوَر الغُزاة القادمين على متن سفنٍ ترفع أعلام “الأخوة” وإن صاح الشاعر الراحل أمل دنقل لا تُصالِح. فالصلح هنا سمة “الحضارة” وعصر الانفتاح حتى لو كان القاتل مُزيَّناً بنجمة داوود.

عقود مرَّت وخِداع الشعارات لبعض النظام الرسمي العربي أن فلسطين هي قضية العرب والمسلمين، والمليارات التي بُذِخَت على مؤتمرات القمم كانت إيهاماً أن فلسطين لم تزل “تؤرِق” قادة أنظمة الصفقات التي لم تعد سرّية ولا حاجة إلى إخفاء ذلك.

كانت فاتحة الإرتماء السياسي “اتفاقية” كامب ديفيد 1978 لتخرج مصر بقيادتها السياسية من دورها القومي مُهشِّمة الجسد العربي، وفتحت مطالع الإندفاعات العلنية لبعض النظام الرسمي العربي للتخلّص من فلسطين كشعارٍ غاصت فيه الأدبيات السياسية الرسمية العربية.

دخلنا في قمّة “فاس” عام 1981 لهجوم “السلام” العربي الذي قدَّم أوراق اعتماده للولايات المتحدة الأميركية وهذه المرة بشكلٍ عَلني. لتنفتح ساحة الصراع على احتلال أول عاصمة عربية “بيروت” في العام 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية وتشتّتها في العواصم العربية.

وإن اتّخذت حال التراجُع الرسمي العربي كمُقدِّماتٍ للتنازل، لم يُسقِط الشعب الفلسطيني راية المقاومة وأتحدَّث هنا عن الشعب الفلسطيني الذي لم يفوِّض أحداً للتنازُل عن أرضه التاريخية.

ولسنا في سياق البحث عن التراجُع الخطير والكارثي الذي حصل بعد توقيع اتفاقية أوسلو في 13 أيلول/سبتمبر 1993 وهذا مجاله عميق، لكن “اتفاق أوسلو” اتُّخِذ كمحاولةٍ سبرية للخطوات اللاحقة التي عوَّلت عليها بعض الأنظمة العربية، لتصبح ساحة تسارُع نحو الحلول الأميركية للمنطقة والتساوق مع طروحات الإدارات المُتعاقِبة لتصفية القضية الفلسطينية.

ولم يكن بعيداً عن بعض القادة العرب أن المآلات الأخيرة هي ما يُطرَح اليوم من قومية الكيان الصهيوني ومشاريع الترانسفير التي تترافق مع تهويدٍ يومي للمُقدَّسات وتوسّع المستوطنات التي وصلت إلى حدود 503 مستوطنات في الضفة الغربية و29 مستوطنة في القدس “الشرقية”، مُترافِقاً ذلك مع اضطرادٍ في ارتفاع عدد المستوطنين الذي تجاوز مليون مستوطن في الضفة الغربية والقدس.

هذه الحقائق لا يتعامى عنها النظام الرسمي العربي بل يذهب إلى اعتبار أنه من حق كيان الاغتصاب أن يعيش بحريةٍ وأمانٍ كما تحدَّث وزير خارجية البحرين خالد بن آل خليفة في لقاءٍ مع صحيفة “معاريف” الصهيونية.

ويبدو أن وقائع التهويد والتهجير والتهويد لم تعد تلق أية رغبة من باب الحياء في استصدار بيان “للشجب”. ومقابل ذلك فُتِحَت الأبواب أمام الوفود التجارية والإقتصادية في حفاوةٍ كبيرةٍ و شاركت الوفود الصهيونية بأكثر من خمسة لقاءات في دبي العام 2019.

وقد صرَّح رئيس كيان الاغتصاب بنيامين نتنياهو في الثالث من أيار/مايو الماضي أن العلاقات مع بعض الدول العربية “تسير وفق ما أردنا وهي في تطوّرٍ مستمر”. ما أكَّده رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفغيدور ليبرمان في تصريحٍ للقناة الصهيونية الثانية في 15 من حزيران/يونيو الماضي: “إننا في سياق الإعلان عن علاقاتٍ رسميةٍ مع دولٍ عربية، ولكن نحتاج إلى بعض الوقت”.

التسارُع في “التطبيع” مع بعض الدول الخليجية، لم يكن مُفاجِئاً في القراءات الإستراتيجية التي تُركِّز على جوهر العلاقة الرابطة بين هذه الأنطمة ودورها في “تشريع” كيان الإحتلال في المنطقة. ومن المهم هنا إعادة عقارِب الساعة إلى الوراء والتذكير أن قصف المُفاعِل العراقي في ما سُمّي بعملية “أوبرا” عام 1981 كان من الأجواء السعودية وبتوجيه من طائرات “أواكس” المُرابِضة في مطارات الرياض.

هي أجواء مفتوحة منذ عقود بين بعض النظام الرسمي العربي وكيان الاحتلال، ولم تكن إلا تراكُماً من المشاريع والعلاقات التي أسّست ليُعلَن عنها اليوم بشكلٍ جليّ من دون أيّ تجميل.

التطوّرات التي عَجَّلت  بظهورها الحرب الشرسة التي  فُتِحَت على الجمهورية العربية السورية ومحاولة إسقاط الدولة التي واجهت المشاريع الأميركية في المنطقة والإقليم، ولم تُساوِم على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

وهنا ظهرت أيضاً محاولات تحجيم دور الجمهورية الإسلامية في إيران التي اتخذت موقفاً استراتيجياً في الوقوف إلى جانب سوريا وشعبها وقيادتها. فالتطبيع والدفع بعجلته قد يكون ظاهره أنه يتساوق مع مشاريع أميركية في المنطقة لتقسيمها وإضعاف الدول المحورية وفي مُقدّمها سوريا، لكن القراءة السياسية المُحكَمة تقول إن ما حصل يصبّ أيضاً في سياق مشروعٍ كبيرٍ قد أُعدِّ للمنطقة وشاركت فيه بعض الدول الخليجية للحد من دور الجمهورية الإسلامية في إيران والعمل على مُحاصَرتها وبالتالي قَلْب نظام الحُكم فيها.

وهذا يتَّضح من خلال بعض التصريحات التي صدرت من قياداتٍ سعوديةٍ أكَّدت فيها أن كرة النار قد تنتقل إلى العاصمة طهران، ويبدو إن القراءات العبثيّة في التفكير السياسي لم تُسعِف مَن روَّج لهذه النظريات التي لم تصمد، بل نرقب اليوم حال الفوضى السياسية التي تُخيِّم بظلالها على المملكة التي بدأت تُفكِّر بالعودة إلى الحوار”الهادئ” مع الجمهورية الإسلامية في إيران بعد أن خسرت كل أوراقها في تحجيم الدورالإيراني وانتصار سوريا. وسقطت بالضربة القاضية مسألة أمن مياه الخليج ومحاولة تعويم كيان الإحتلال في المؤتمر الذي عُقِدَ مؤخّراً في المنامة.

المُعطيات الراهِنة تذهب إلى أن العلاقات الرسمية لبعض النظام الخليجي في تطوّرٍ مستمرٍ مع دعوة كيان الاحتلال إلى معرض”إكسبو2020″ في دبي مع ترحيبٍ رسمي وعلني بالوفد الصهيوني وبجوازات سفرٍ صهيونية.

هذا ما عملت عليه وزارة الخارجية الصهيونية التي شكَّلت طواقِم مُهمّتها الترويج للتطبيع على شكل زياراتٍ ولقاءاتٍ ثقافيةٍ وعلمية. ونجحت على ما يبدو في اختراق حواجِز كثيرة كانت مُغلَقة لعقودٍ أمامها ولنقل بشكلٍ عَلَني.

ما يحصل من تطبيعٍ عَلَني وتشكيل طواقِم تحت مُسمَّيات شتّى يأتي لمواجهة إيران في المنطقة ضمن حلف تجمعه “مصالح مشتركة”. قد يكون معرض “إكسبو”2020  هو الصورة الأوضح للتطبيع العَلَني، وهو معرض دولي وتصريحات قادة إماراتيين تقول إنه لتبادُل “الخبرات والثقافة” ولا ندري عن أية ثقافة يتحدَّثون؟!.

الترويج الذي يُمهِّد له بعض النظام الخليجي للعلاقات مع كيان الاحتلال عنوانه إقتصادي ويخفي مشاريع مستقبلية للمنطقة يُعوِّل عليها كيان الإحتلال الذي فشل مشروعه في سوريا وسقط.

واليوم هناك سعي لإدخال الإحتلال إلى العواصم العربية ورَفْع شعارات خادِعة ومُخاتِلة أن ما يجري ليس تطبيعاً، والمسألة مُجرَّد تبادُل معرفي، وهذا يُعيدنا إلى ما قاله بنيامين نتنياهو العام الماضي: “منكم رأس المال ومنا المعرفة”.

وعلى هذا الطريق ترى المملكة ومَن يُروِّج لذلك بألا ضير أن يشارك فريقها الرياضي في مباراةٍ مع فريق فلسطين في الضفة الغربية المحتلة فلن يُفتّشه الحاجز الصهيوني. وما يدحض ذلك ما نشرته الصحف الصهيونية عن أن طائرة قد حطّت مؤخراً في الرياض لساعاتٍ محدودةٍ ويعتقد أن رئيس كيان الاحتلال كان على متنها وقد اجتمع ببعض القيادات السعودية للنقاش في مسائل تخصّ شأن المنطقة.

يتضح من تتابُع الأحداث أن بعض الدول الخليجية تفرش الأرضيات لإدخال كيان الاحتلال إلى المنطقة تحت عباءات مختلفة، وتسعى إلى توطيد تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية، وإن أظهرت أنها تسعى إلى حلحلة بعض الملفات العالِقة في أمن الخليج، فهذه ربما تحمل سياسات مواربة قد تكون نوعاً من الأفخاخ التي تسوّقها علنية، لكن يجب التدقيق  بالتصريحات على أرض الواقع.

المشروع لم يعد مُتخفِّياً وراء الأكَمَات فظهوره يُعلِن عن نفسه. وما عدا ذلك هو دوران في الفراغ في سياسات تحاول أن تقدِّم نفسها أنها ضد “صفقة” القرن ولن تُقدِم على هكذا خطوة، وأن هناك انقساماً في هذه المسألة.

والواقع يُغاير ذلك فلقاء جاريد كوشنيرالأخير في الرياض مع القيادة السعودية يشي أن هناك ما يُعدّ لفلسطين وشعبها وينتظر الحكومة الصهيونية القادمة التي تلقّفت “هدية” الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

يسير قطار التطبيع بقوَّةٍ ويترافق مع دعمٍ كبيرٍ من أنظمة “صالِح على الدم بالنفط”، لكن شعب فلسطين ومَن يقف معه لن يُصالِح كما قال الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل:

“لا تُصالِح.. ولو توَّجوك بتاج الإمارة.. كيف تخطو على جثّة إبن أبيك.. وكيف تصير المليك.. على أوجه البهجة المُستَعارة؟”.

المصدر : الميادين نت 0 بسام رجا – كاتب وإعلامي فلسطيني