حفاظاً على الأصالة وتعزيز الموروث الشعبي والتمسّك بالهوية … صور من الحياة الماضية والحاضرة في الجزيرة السورية

تناول المهرجان التراثي الشعبي الذي دعت إليه جمعية «صفصاف الخابور» الثقافية في الحسكة، وحمل في عنوانه شذور وعبق وعراقة «الدلّة والنجر» ومدلول كل واحد منهما وارتباطه بأصالة الماضي وتعلّقه بالحاضر اليوم، والذي جاء رسالة شفافة تناولت في مضمون سطورها، صرخة علنية تدعو وبوضوح، وتنادي مؤكدة أهمية الحفاظ على الأصالة وتعزيز الموروث الشعبي والتمسّك بالهوية الوطنية، من خلال ما تناوله المهرجان الذي استضافته مديرية الثقافة في محافظة الحسكة على مدار يومين، حيث سلط الضوء فيه في مطلع ظهور باكورة أعمال المعرض، الباحث «محمد صالح العلي» الذي تناول في محاضرته «القهوة وآدابها» والتعريف بالقهوة العربية، من خلال عرض توثيقي تاريخي لمراحل ولادة القهوة العربية وموطن نشأتها وكيفية ظهورها وطرق انتشارها وعملية عبورها من الشرق حيث موطنها إلى الغرب، وعملية إعدادها وصنعها ومفردات آدابها بالشواهد والأدلة الحية التي رافقتها خلال القرون التي سلفت.

الذاكرة والحفاظ عليها

وجسّد المعرض التراثي صوراً ومجسمات ودلالات حية، لماهية القهوة العربية وأدوات مراحل صنعها وللنجر «الهاون» بلونيه الخشبي والنحاسي من خلال حزمة من المقتنيات المادية التي لا تزال تزخر وتزهو وتعتز وترفل بها بيوتات الجزيرة السورية إلى اليوم. وتناول اليوم التالي للمهرجان أصبوحة أدبية تناولت الشعر الشعبي بلون ولسان حال المحافظة وأهلها التراثي، شارك فيها كل من الشعراء «أحمد حسين العلي، ظاهر العبيد، عبد الجبار الصالح، محمد الخضر، عبد الرحمن حمادة».

وأكد مدير ثقافة الحسكة عبد الرحمن السيد في تصريح خاص لـ «الوطن»: إن مديرية الثقافة وبشكل دائم، تتبنى كل حالات وأشكال التعاون الثقافي والفكري والإبداعي مع جميع مؤسسات المجتمع الأهلي المعنية بالحالة الثقافية، ولاسيما جمعية «صفصاف الخابور» الثقافية، التي قدّمت في هذا المعرض التراثي، حالة لونية مهمة وحية من شواهد ودلالات ومقتنيات للموروث الشعبي في البيئة الجزرية، مشيراً إلى أنها مناسبة مهمة من جانب رواد الثقافة ودعوة لهم للتعرّف والاطلاع على هذا النوع من الموروث الشعبي، الذي شكّل ذاكرة حية لما ورّثه الآباء والأجداد، الذين عاشوا لمرحلة خلت في بيوتات مدينة الحسكة وأريافها.

التراث المادي واللامادي

ولفت السيد إلى أن مديرية الثقافة ومجاميع مؤسسات المجتمع الأهلي والمحلي، ينبغي عليها أن تترجم هذه الرسائل وأن تجعلها واقعاً حياً، لتعرّف الأجيال القادمة وتطلعهم على تراث الأجداد المادي واللا مادي، كما هي رسالة أيضاً لتوثيق الحالة التراثية بكل تفاصيلها ومفرداتها بشكل علمي ومنهجي لأن تضعها برسم وبين أيدي الأجيال المقبلة التي تأتي بعدنا.

وبيّن الباحث أحمد الحسين رئيس مجلس إدارة جمعية «صفصاف الخابور» الثقافية، أن الأسبوع التراثي تناول اختيار جانب مهم من جوانب الموروث الشعبي وهو تسليط الضوء على «القهوة العربية»، مشيراً أن هذا الاختيار جاء بناء على عدة قراءات تهدف في جوهرها إلى تثبيت الهوية التراثية المحلية والأصالة العربية، في مرحلة تعرضت فيها إلى ضغوطات ورياح من هنا وهناك، ومن هنا فإن عملية إظهار الموروث الشعبي، جاءت رداً مناسباً على مثل هذه الرياح المسمومة بهدف خلق نوع من الاعتزاز المتبادل بين الإنسان وهويته وتراثه ووطنه، فأشارت محاضرة «القهوة وآدابها» إلى معلومات مهمة كانت غائبة عن الكثير من الناس، ولاسيما الجيل المعاصر منها، وهو البعيد كل البعد عن هذا الطقس اللوني من التراث، وتناول المعرض «دلة ونجر» تفاصيل دلالتي «الدلة والنجر» في حياة الناس، لأن كلاً منهما رسم لوناً حياتياً للمجلس المجتمعي لفترة من الفترات الطويلة في مجالس الجزيرة السورية، التي كان يتحلّق من حولها الناس، فكانت المجالس هي المدارس المرتبطة بتكريس وتعزيز القيم والأعراف والتقاليد السامية والنبيلة في المجمع المعني بحل الخصومات والنزاعات وإظهار خصيلة الكرم على وجه التحديد، تلك المجالس التي من حولها تنشأ القهوة وتزول، بدليل أن من ترتبط به صناعة وتقديم القهوة في مضيفه، إما أن يكون كريماً أو فارساً أو ذا عقل راجح.

تعزيز المعرفة لدى الأجيال

وأوضح الحسين أن إظهار خاصية من خصائص التراث بهذا الشكل، تأتي لتعبّر وتعمل على تعزيز المعرفة وزرع حالة الإدراك لدى هذا الجيل من خلال المشاهدة والتماس المباشر، لما أورثه الآباء والأجداد، الذين حافظوا عليه وقدموه لنا بهذا الشكل، مؤكداً أنها دعوة للاعتزاز به والسعي للمحافظة عليه والعودة إليه أيضاً، لتعزيز الكثير من الروابط التي أصبحت آيلة للانهيار والتفكك والتفسّخ، مضيفاً: إنها دعوة أيضاً لكل هذه الاعتبارات من خلال هذا النشاط الذي هو ليس دلالة اجتماعية فحسب، إنما دعوة وطنية للحفاظ على هويتنا وإلى انتمائنا وتمسكنا بتراثنا في هذه الفترة العصيبة، نظراً لما نشعر به من رياح مسمومة تهبّ من هنا وهناك، تحاول وترمي وتريد أن تقتلعنا من جذورنا، لنقول: لولا الجذور المطمئنة في الثرى…….. لما كانت الأغصان ترفع هامها، وبالتالي فإن دورنا هنا يأتي من العمل والحفاظ على هويتنا الوطنية، التي هي سر بقائنا ووجودنا في الحياة.

الصلات الإيجابية للمجتمع

وأشار الباحث محمد صالح العلي، إلى أن العنوان الذي انطلق منه في محاضرته، جاء مناسبة مهمة ومطلوبة اليوم، لتعريف الأجيال المقبلة بهذا الطقس التراثي الحياتي، الذي يعد منبع فخر واعتزاز، لأنه يحمل الكثير من القيم الإنسانية النبيلة، التي ينبغي أن نعتز ونفخر بها في سلوكنا اليومي، وذلك لأنها تعزز أواصر الصلات الإيجابية بين أفراد المجتمع الواحد وبين الجماعات الأخرى من مختلف الألوان والطيف الاجتماعي، مبيناً أننا اليوم أحوج ما نكون إلى أن نتمثل هذه القيم، لأننا في زمن كثرت فيه المصاعب، وإزدادت الإرهاصات فيه أكثر.

ونوه العلي بالمحاور والتفاصيل التي تناولت «القهوة وآدابها» وما حملته من دلالات سامية وأصيلة ومعان نبيلة، جاءت لتعرّف المجتمع بها وتنفض عنها غبار النسيان عن ماض عريق، لافتاً إلى أنه عندما نتحدث عن الماضي لا نريده أن يكون عبئاً علينا وعلى الحاضر الذي نحن فيه اليوم، إنما نريده أن يكون حافزاً لنا في كل خير وفي كل وقت وإلى كل ما يرتقي بالمجتمع، وإلى آثار نرتقي إليها ونطمح وتصبو نفوسنا إليها.