الدولة والانتخابات.. والحياد السلبي والإيجابي ,,, بقلم : د. أسامة دنورة

الدولة والانتخابات.. والحياد السلبي والإيجابي ,,, بقلم : د. أسامة دنورة
الدولة والانتخابات.. والحياد السلبي والإيجابي ,,, بقلم : د. أسامة دنورة

وضعت الكلمة التي ألقاها الرئيس الأسد أمام مجلس الشعب النقاط على الحروف فيما يتعلق بانتخابات مجلس الشعب، فالكلمة حملت من مضامين الشفافية في تناول العملية الانتخابية قدراً غير مسبوق، وأظهرت مجدداً أن “سياسة الإنكار” ليست ضمن أبجديات القيادة السورية، الأمر الذي دفع العديد من المحللين والمعلقين إلى أن يعتبروا بأن كلمة الأسد كانت تقيس نبض الشارع السوري صعوداً وهبوطاً، وتتماهى معه في همومه وتطلعاته المشروعة.

الرئيس الأسد أشار إلى وجود عدد من العيوب المحتمل أنها شابت العملية الانتخابية، مشيراً إلى المال السياسي كواحد من تلك العيوب المحتملة،  كما أكد أنه “يجب أن نبدأ الحوار بعد الانتخابات، لا أن يتوقف الحوار حول ما طرح في الشارع بنهايتها”.

إن ضرورة الحوار تدفعنا اليوم إلى ملاحظة أن قانون الانتخابات بصيغته الحالية لا يضع معايير محددة للإنفاق ضمن الحملات الانتخابية بما ينبغي له أن حقق تكافؤ الفرص بين المرشحين، فلا سقوف للإنفاق، بل فقط تقديم كشف حساب بمجمل نفقات الحملة الانتخابية، وغني عن الذكر أن هذه الضوابط ليست كفيلة وحدها بتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في الدستور، الأمر الذي يطرح على طاولة البحث مدى دستورية قانون الانتخاب الحالي، إن لم يكن من حيث النص وحرفية التناول القانوني، فمن حيث الالتزام بروح المبادئ الدستورية التي تكفل المساواة بين المواطنين، فكيف بالحري أيضاً بين المرشحين.

لقد ورد تعبير “الحياد” أكثر من مرة في قانون الانتخابات العامة، فقد جاء في الفقرة /د/ من المادة الثامنة من القانون:”تمارس اللجنة مهامها واختصاصاتها باستقلال تام وحيادية وشفافية ويحظر على أي جهة التدخل في شؤونها ومهامها أو الحد من صلاحياتها.” ، كما جاء في الفقرة /أ/ من المادة /٥١/ من القانون: “على أي موظف عام معاملة جميع المرشحين والأحزاب السياسية على قدم المساواة وبحياد تام بما يضمن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص فيما بينهم أثناء فترة الحملة الانتخابية..” وهذا كله جيد، ولكن ينبغي أولاً لتفكيك هذا المفهوم وتحديده التدقيق في مضمون وحقيقة مصطلح الحياد، فحقيقة الأمر أن هناك فرقاً في حياد الدولة تجاه المرشحين بين “حياد سلبي” و”حياد إيجابي”، فالحياد السلبي يعني هنا أن الدولة (التي يحدد سلوكها هنا قانون الانتخابات) تحجم عملياً عن وضع الضوابط والإجراءات والمحددات التي تضمن تكافؤ الفرص بين المرشحين، فتترك إيقاع الساحة الانتخابية دون ضبط، لكي يكون فيها البقاء والنجاح للأقوى، وبهذا يكون “الحياد السلبي” هو الوجه الآخر للانحياز المؤكد.

وما يعنينا في الأمر هو أن معيار البقاء للأقوى يعني أنه لن تكون هناك عدالة في تمثيل الشرائح المختلفة، الأمر الذي يقود إلى احتكار طبقة “أوليغاركية” ثرية لمقاعد في مجلس الشعب ينبغي أن تكون موزعة على شرائح عدة، ولعل اهم هذه الشرائح هي ما تبقى من طبقة وسطى تمثل قطاعاً مهماً ورئيساً من أبناء الشعب، هذه الطبقة التي تراجعت مادياً ومعيشياً وباتت تلامس الفقر في حدوده الدنيا.

مما لا شك فيه أن الحروب والأزمات الكبرى تفاقم حالات الفقر والعوز، وتؤدي بالتالي إلى تزايد التناقضات الطبقية، وكثيراً من الاضطرابات الاجتماعية والصراعات في دول العالم حدثت بعد الحروب او أثناءها، ولذلك ينبغي للتمثيل المتوازن ضمن مجلس الشعب أن يحقق إدارة مؤسسية لهذا الصراع، وتقنيناً له ضمن الأطر الدستورية، اما استئثار طبقة أصحاب رؤوس الأموال بحصتها وحصة غيرها فهو يعني تغييب أو إضعاف صوت شريحة كاملة من تحت قبة المجلس، وبالتالي يقود إلى محدودية أو غياب قدرتها على الدفاع عن حقوقها.

لقد مثلت طبقة أصحاب رؤوس الأموال بنجاح (في أوقات سابقة) مصالح طبقات واسعة بناءً على انتماءاتها المناطقية والأسرية وسواها، وكان ذلك في زمن الوفرة، اما في الوقت الحاضر، فمصالح هذه الطبقة ربما أصبحت في موقع تناقض مع الطبقات الأدنى، فالثروة الوطنية ينبغي لها أن يتم تقاسمها بمعيار اكثر عدلاً بين الطبقات، وهذا يقتضي ان يتم أيضاً تقاسم السلطة السياسية (ممثلةً هنا بالسلطة التشريعية) أيضاً وفق معيار أكثر عدلاً بين الطبقات ذاتها، فوفق مثلث “غالتونغ” الذي يحدد درجات الصراع، الخلاف هنا بين الشرائح أصبح من نوع “التناقض” contradiction، وليس ضمن الضلعين الآخرين المتمثلين في “المواقف” attitudes و”السلوك” behavior .

المطلوب اليوم ليس استبعاداً لنفوذ أو مصالح رأس المال، فدور الأخير مهم جداً وأساسي وحيوي في مرحلة إعادة الإعمار، وليس من المطلوب ولا الممكن العودة إلى مبدأ “كل شيء للدولة”، علماً أن دور القطاع الخاص لم يكن ابداً منقطعاً عن حصته في بناء الدولة والاقتصاد السوري حتى تحت أشد ممارسات اليسار الراديكالي وطأةً، ولكن المطلوب اليوم إيجاد التوازن بين مصلحة أصحاب رؤوس الأموال ومصالح المواطنين، وضبط أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية بناءً على مثل هذه الصيغة المتوازنة، ففي ما

يتعلق بالأداء الحكومي، لا ينبغي ان يكون هذا الأداء مراعياً لمصلحة الطبقة الأوليغاركية وحدها على قاعدة تشجيع الاستثمار وعودة النشاط الاقتصادي، بل أن يكون مراعياً في الوقت ذاته لمصالح الجميع..

في كتابه “روح القوانين” De l’esprit des lois يحدد الفيلسوف الفرنسي “مونتسكيو” الذي صاغ مفهوم “فصل السلطات” جوهر هذا المفهوم بالعبارات التالية: “حتى لا تتم إساءة استخدام السلطة، فوفق طبيعة الأشياء، ينبغي لسلطة أن توقف سلطة أخرى”، ويعني بذلك التوازن بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بحيث تتمكن كل منها من تحديد وتقويم وضبط اداء السلطة الأخرى، ولكن إذا كانت السلطتان التشريعية والتنفيذية على موجة واحدة من منح الأولوية لمصالح أصحاب رؤوس الأموال، فكيف للسلطة التشريعية أن تضبط اداء السلطة التنفيذية في ظل احتمالات قائمة وقوية في أن تتقاطع مصالح السلطتين على أساس تبادل الخدمات الذي قد يفضي إلى الفساد.

إن البحث والتمحيص في مواد قانون الانتخابات العامة، والتدقيق عميقاً في مدى ملاءمته للمعيار الدستوري المتعلق بتكافؤ الفرص يمثل ضرورةً سياسية ومجتمعية، كما أنه ينسجم مع الحوار حول العملية الانتخابية، والذي دعا إليه الرئيس الأسد في خطابه امام الدور التشريعي الثالث لمجلس الشعب.

المصدر – صحيفة الوطن السورية

المقال يعبر عن رأي الكاتب