مع تسلّم كوندوليزا رايس وزارة الخارجية الأميركية في عام 2005 نشطت الدراسات السياسية ومراكز الدراسات الإستراتيجية الأميركية والأوروبية في قراءة مُصطلح “الفوضى الخلاّقة” الذي بشَّرت به رايس. وعملت بعض مراكز الدراسات الأميركية على تكريس الجهد والوقت لدراسة ما بعد “الفوضى الخلاّقة” التي يمكن أن تؤسّس لعالمٍ تسود فيه نظريات تتساوق مع “الجهد” المبذول لإحداث تطورات “مفصيلة” في العالم من شأنها أن تؤطّر لعلاقات سياسية وثقافية وبنيوية وفق مصالح قوى تفرض رؤيتها الفكرية والإيدولوجية. وإن كان هذا الطرح ارتبط بوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في عهد الرئيس بوش الإبن، إلا أن تسويقه كان في تسعينيات القرن الماضي. وقد شهدنا الحرب الشرسِة التي قادتها واشنطن لفرض تحوّلات “كُبرى” على أنظمة اعتبرتها “توليتارية”، وهو ما حصل في دعم القوى “الشعبوية” التي انقلبت على الأحزاب الحاكِمة في بولندا والإتحاد السوفياتي وبلغاريا وغيرها من المنظومة الإشتراكية السابقة.
ولم تقف حدود “الفوضى” الخلاّقة عند ذلك، بل كانت العتبة الأولى لدعوات الإنفصال الجغرافي والسياسي في أوروبا الشرقية. وإن اقترنت الفوضى “الخلاّقة” بإدارتي جورج بوش الأب والإبن إلا أن الصقور الأميركيين في الإدارات المُتعاقِبة غذّوا هذا المفهوم وشكّلوا القوى الضاغِطة داخل الحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي.
وكان المطلوب من القوى الضاغِطة داخل الحزبين تصعيد رؤساء أميركيين يتبنّون كل الطروحات التي تجسّد هيمنة تيار الصقور وتنفيذ مُخطّطات التقسيم في العالم ونشر القوّة العسكرية الأميركية في معظم دوله.
هذا ما حصل بالضبط بعد انهيار الكتلة الإشتراكية. فقد شكّلت الإنهيارات السياسية التي حصلت في العالم تكريساً للولايات المتحدة كقوّة أحادية بعد أن خلت الساحة من منافسين وهذا دفعها إلى المزيد من الخطوات في توطيد العلاقة مع أوروبا الغربية وبعض دول منظومة الدول الإشتراكية سابقاً، ونشر قواعدها العسكرية في العالم تحت ذريعة “حمايتها”.
وبعد أن تكرّست نظريات واشنطن الأمنية ووطّدت قوّتها في أوروبا وأصبحت تتحكّم في سياسات كثير من دول العالم من خلال قواعدها العسكرية التي ُبرّر وجودها لحماية الأمن الأوروبي من “المجهول” دفعت إلى تبنّي الخيارات العسكرية في إعادة ترتيب الخارطة السياسية العربية بما يجعل من كيان الإحتلال مُحرّكا و”دينامو” اعتبر أساسياً في الفوضى “الخلاّقة”.
نجحت واشنطن بتدمير قوّة العراق ومكانته. ولسنا هنا في سياق تقييم تلك المرحلة لتشعّباتها وتفصيلاتها الكثيرة. لكن القراءة في محرّكات السياسة الأميركية في تسعينيات القرن الماضي كانت تشير إلى أن الخطوات المُتتابعة نُسّقت بدقة للتدخّل في أكثر من منطقة وذلك من أجل الإنهاك والتدمير المُمَنهجين للمقدّرات العربية والإسلامية، وبالتالي التفرّد في رسم الخرائط الجديدة وخاصة في القضايا الكُبرى المُتعلّقة بفلسطين وأمن الخليج، وتثبيت حُكم أنظمة عربية تم اعتمادها لتحقيق المصالح الأميركية.
هنا لا بدّ من التدقيق في الطروحات التي سادت في تسعينيات القرن الماضي حول “الجموح” الأميركي “للسلام” ودعم البيت الأبيض للمؤتمرات الدولية كما حصل في مؤتمر مدريد “للسلام” في العام1991. وهذا التدقيق يجب أن يأخذ بعين الإعتبار أن الدعوات الأميركية لأيّ مؤتمر دولي كانت تُبنى على أساس أن العالم سيشهد مخاضات كُبرى تشهد على تفكّك كثير من الدول الكُبرى. والعين كانت على الكتلة الشرقية التي يمكن أن تسقط في رمال مُتحرّكة. وبالتالي تواصلت الضغوط الأميركية في المنطقة العربية وكانت الدفوع السياسية لواشنطن في التنسيق مع بعض الدول الخليجية لتصفية القضية الفلسطينية. وهذه الدفوع بدأت تحصد نتائجها بعد غزو العراق وتدميره في2003. وتمظهر ذلك في مقدّمات سابقة أفرزها مؤتمر القمّة العربية في بيروت 2002 الذي حمل الرؤية الأميركية للتطبيع مع كيان الإحتلال وتصفية قضية فلسطين.
مقدّمات الإنحدار تمظهرت في الخطاب الرسمي لبعض النظام الرسمي العربي الذي تبنّى الرواية الأميركية كاملة بضرورة الوصول إلى “سلام” مع “إسرائيل” التي أصبحت قوّة ضارِبة في المنطقة. وهذه الطروحات التسووية قد سادت بعد العام 1974 في الخطاب الفلسطيني والعربي الرسميين.
السؤال الذي يُطرَح اليوم بعد أن سلّطنا بعض الضوء على الإستراتيجيات الأميركية لنشر الفوضى “الخلاّقة” والتي أصبحت عنواناً للتحرّك الأميركي في منطقتنا والعالم: هل خَفَت الصوت الأميركي في دعم “صفقة القرن” في ظلّ وباء كورونا، ما يعني أن واشنطن قد أدركت مُعضلة تنفيذها وأن هناك أولويات في أجندتها؟
بعض الدراسات والقراءات تقول: إن أميركا مُنشغِلة في مواجهة الوباء. وهذا سبب رئيس لأن يخفت الضجيج في ظلّ الأزمة التي تمرّ بها إدارة ترامب وفشلها في إدارة ملف وباء كورونا. وكذلك انعكاس أزمة كورونا على علاقاتها مع شركائها الأوروبيين الذين اكتشفوا هشاشة الطروحات الأميركية في مفهوم التعاون المُشترك. ويُضاف إلى ذلك تخبّط إدارة ترامب التي تُسابِق الوقت كي لا تهبط أسهمها في سباق الرئاسة.
مع كل ما يُطرَح من قراءاتٍ إلا أني أعتقد أن هذا المشهد لن يُشكّل عائقاً أو سدّاً في وجه تنفيذ وعود ترامب لرئيس الوزراء المؤقّت بنيامين نتنياهو الذي تلقّى مؤخّراً إتصالاً من جاريد كوشنير يحثّه على تشكيل حكومة “وحدة وطنية” مع بني غانتس.
وهنا لا بدّ من القراءة العميقة في أن ما قدّمته إدارة ترامب لكيان الاحتلال فاق كل التقديرات، ما يؤكّد على استراتيجية العلاقة بين الطرفين، وخاصة أن واشنطن فتحت النوافذ أمام كيان الإحتلال لتطبيع العلاقات مع بعض النظام الرسمي العربي.
الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية والقوى المُتحكّمة بالقرار الداخلي والخارجي لن تتراجع عن قرارات تراها إستراتيجية في العلاقة مع “إسرائيل”، وهذا يجب أن يدفع إلى المُراجعة المنهجية لتاريخ السياسة الأميركية تجاه منطقتنا والعالم.
السياسة الأميركية لن تنكفئ عن تشييد قواعد “حيوية” للمزيد من الفوضى “الخلاّقة”.
المصدر:الميادين