هو سؤال يشغل، أو ربما بات يقلق المواطن الروسي منذ فترة طويلة.
كيف سيكون مستقبل روسيا وموقعها على الساحة الدولية بعد حقبة بوتين، الرجل الذي أعاد لدولتهم هيبتها وغير الكثير من المسارات في العلاقات الدولية.
عشرون عاما مضت وهو على رأس الهرم من دون منافس. أربع فترات رئاسية تخللتها رئاسة الحكومة لأربعة أعوام كان يقود فيها فعليا كل شيء؛ ولهذا يطرح السؤال اليوم داخليا ودوليا – هل لدى بوتين رؤية واضحة عن مستقبل روسيا، وعمن سيقودها، ويحفظ ما أنجز خلال العصر البوتيني.
قبيل رسالته السنوية هذا العام، والتي جاءت قبل شهر من موعدها، توقع كثيرون أن تتمحور حول رفاهية المواطنين ومحاربة الفقر وزيادة الضمان الاجتماعي، وهو ما كان. أي من دون مفاجآت كما اعتاد الشعب والعالم حصولها من الرئيس بوتين… لكن الواقع كان غير ذلك، فالمفاجآت منه تأتي على غير حسبان.
يعلن بوتين عن مقترحات لتعديل الدستور الروسي قبل نهاية فترته الرئاسية بثلاثة أعوام، وهذه المرة باتجاه منح البرلمان مزيدا من الصلاحيات، ومنها تسمية رئيس الحكومة وأعضائها، وبعد ذلك فقط يحال الأمر إلى رئيس الدولة ليقر ذلك، إضافة إلى مقترحات اخرى.
لماذا رئيس الحكومة؟ يسأل كثيرون. وما الذي سيغير من المعادلة إذا ما نظرنا إلى أن صلاحية تسمية وزير الدفاع والخارجية ستبقى بيد الرئيس بعد التشاور مع مجلس الاتحاد.
تذهب النخب السياسية بعد كلمة بوتين في التحليل بين مرحب ومنتقد للخطوات الحالية، التي سماها بوتين مقترحات، لكنها في الواقع ستدخل حيز التنفيذ بعد إقرارها، وهو ما لا يشك فيه أحد بعد حلول 2024. أي أن الرئيس بوتين يفكر في شكل السلطة وأدواتها بعد انتهاء فترته الرئاسية الحالية.
يشكل بوتين فريق عمل من سبعين اختصاصيا لصياغة مقترحاته الجديدة، وربما ستكون أمام الفريق مهمة صعبة للإبقاء على روسيا دولة رئاسية بصلاحيات أوسع لرئيس البرلمان… الرئيس المستقبلي بعد الرئيس بوتين لن يتمكن وفقا للتعديلات الحالية من الترشح لمنصب الرئاسة إلا لفترتين. الأمر بالطبع الذي لن ينطبق على رئيس البرلمان، الذي ينتخب من قبل أكبر كتلة برلمانية، وفي الوضع الحالي فهو حزب “روسيا الموحدة”، الذي يرى البعض بأن بوتين سيقوده بعد حلول 2024.
سنوات صعبة مرت على بوتين عندما استلم في نهاية الألفية الثانية من بوريس يلتسن دولة مثقلة بالمشكلات الاقتصادية والأمنية، والأخطر من ذلك أنها كانت مهددة بالتقسيم، لكنه استطاع خلال هذه السنين أن يجعل من روسيا دولة يفتخر أبناؤها بانتمائهم إليها، لا بل جعل منها دولة يحسب القاصي والداني لها ألف حساب. ولهذا، فإن الشعب الروسي راضٍ عن ذلك، والروس مقتنعون بأنه لن تظهر أي شخصية اخرى في البلاد بقوة الرئيس بوتين، وهو السبب وراء شعبية بوتين المتنامية على الصعيدين الشعبي والدولي.
يعرف عن بوتين بأنه صاحب المفاجآت، لكنه هذه المرة يرمي بالكرة في ملعب التأويل والتحليل. لماذا أقدم على كل ذلك قبل نهاية فترته الرئاسية الحالية؟ ولماذا لم ينتظر حتى عام ألفين وأربعة وعشرين؟ ومتى ستدخل هذه التعديلات حيز التنفيذ، ولا سيما أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستجرى عام 2021… هي أسئلة ستبقى غامضة إلى أن يعلن بوتين عن المفاجآت المقبلة. بيد أن ما يجمع عليه كثيرون هو أنه بدأ جديا يفكر بمن سيقود البلاد في المستقبل، ولذلك يحتاج إلى فريق حقيقي ذي دماء شابة يتدرج بهرم السلطة ويحفظ حقوق الدولة والمواطنة. ولعله يريد أيضا ألا يكون هناك أي تأثير للأوليغارشية على السلطة في البلاد، لذلك أصر على أن أي شخصية مستقبلية تريد شغل منصب رسمي في البلاد، يجب ألا تحمل جنسية دولة أخرى أو لديها إقامة دائمة في أي بلد أجنبي، فضلا عن ضرورة استمرارية الإقامة في روسيا فترة زمنية لا تقل عن 25 عاما… إذ إن بوتين يريد قيادة وطنية مستقبلية تضمن للدولة الروسية الاستمرارية والاستقلالية في قراراتها، ذلك بالإضافة إلى الحفاظ على مصالحها في العالم وعلى ريادتها على الصعيد العسكري والقدرات النووية.
يصف كثيرون الرئيس بوتين بصاحب السلطة المطلقة والشخصية الفذة ذات القبضة الفولاذية … كثيرة هي الصفات التي أسبغت عليه، لكنه لم يلتفت لأي منها؛ فهو ماض في طريقه الذي عرف مساره من زمن بعيد، يغير المسار متى يشاء ويعود إليه متى يشاء. هكذا هو بوتين، فلا خوف على دولة يقودها رجل استخبارات بامتياز، ولهذا يحسب القاصي والداني وجود بوتين من عدمه. ويتخوف الجميع من مفاجآته المستقبلية، وبخاصة على الساحة الدولية.
سئُل بوتين منذ فترة: هل دخل اسمه تاريخنا المعاصر، فأجاب أن الأجيال القادمة هي التي ستقرر ذلك. لكن ما لا جدال فيه اليوم هو أن بوتين أصبح الأب الروحي للشعب الروسي. ويرى فيه الكثيرون أنه اسطورة بعثت روسيا من الرماد، فهو الوحيد الذي جرؤ على أن يعيد شبه جزيرة القرم إلى الحاضنة الروسية، ولا يستبعد ذات يوم أن ترى وجه بوتين على الكتب المدرسية لما قدمه لشعبة وللدولة وللعالم… إن تاريخنا المعاصر سيذكره بأنه من أكثر الشخصيات غموضا وأكثرها وضوحا في المفاجآت.
روسيا اليوم – حسن نصر