ستة عقود ونيف قضاها الدكتور محمود السيد في العمل الفكري واللغوي والمعرفي جعلت منه قامة علمية كبيرة أضاءت ولا تزال إلى يومنا هذا سماء الوطن.. تشبعت عطاءً لغوياً وفكرياً لا حدود له ببعديه الوطني والإنساني.
عشق الدكتور السيد لغته العربية ومنحها جل معرفته وحبه دون كلل أو ملل فكان التميز مرافقاً لمسيرته العلمية المشرفة وخبرته العميقة في مجال اللغة العربية والأدب والفكر خلال حياته التدريسية أو في المواقع العملية التي تبوأها.
فارس اللغة العربية وأنبل حراسها قال الأديب الكبير المرحوم فاروق شوشة أمين عام مجمع اللغة العربية في القاهرة والأمين العام لاتحاد المجامع العلمية اللغوية في الوطن العربي في حفل استقبال الدكتور السيّد عضواً عاملاً في مجمع القاهرة .. يعد الدكتور محمود السيد واحداً من صفوة العلماء العرب والذي ارتبط اسمه بالفكر التربوي والثقافي والأكاديمي والمجمعي وصار علماً متألقاً في كل هذه المجالات وأضفى حضوره الإيجابي وحيويته الفائقة في كل مجال وجهة نظر صائبة للمستقبل متطلعاً إلى آفاق أرحب مما نحن فيه وإلى تقدم تبتغيه أمتنا العربية وتعمل على تحقيقه.
وأضاف شوشة: الدكتور السيد فارس متمرس من فرسان الفصحى المعدودين وعالم من علماء التربية الكبار ومنظر ثقافي من الطراز رفيع المستوى، جمع أدواته ومفرداته من الثقافتين العربية والأجنبية ومزج بينهما لينتج أعمالاً أدبية وفكرية بديعة في عناصرها وتكوينات مضامينها وأضفى عليها من وجدانه عملاً دؤوباً وجهداً متواصلاً يشع منهما بريق يضيء الفكر الإنساني أينما حل.
وتابع: على الرغم من كل ذلك شعاره الدائم “هوية عربية قومية .. وانتماء عربي .. لا يقبل المناقشة او التشكيك ..وإسهام فاعل في كل عمل يعود بالنفع على هذه الأمة ويؤدي الى نهضتها وتقدمها في حاضرها ومستقبلها” وهكذا وقف دائماً موقف العروبي المنحاز إلى الثقافة العربية والهوية العربية والموقف العربي الصحيح في وجه التغريب وطمس معالم الهوية فبات من أهم الشخصيات اللغوية والفكرية والتربوية على مستوى الوطن العربي.
من جامعة دمشق.. كانت البداية
في قرية بعمرة بمحافظة طرطوس ولد السيد عام 1939، وحصل على إجازة في الآداب من قسم اللغة العربية بجامعة دمشق عام 1962، وألحقها بدبلوم التربية حيث مارس التدريس في المرحلة الثّانوية لثلاث سنوات، ثم تسلم مدير ثانوية “الدريكيش” لثلاث سنوات أيضاً، ليتركها ويسافر إلى القاهرة بإجازة دراسية وكان موضوع دراسته حول أسس اختيار موضوعات القواعد النحوية في مناهج تعليم اللغة العربية في المرحلة الإعدادية الوطن العربي عام 1972.
إلى قبلته الدائمة.. دمشق
عاد السيد إلى دمشق ليعمل موجهاً أول للغة العربية في وزارة التربية، وفي عام 1974 عمل مدرساً في جامعة وهران بالجزائر وأدخل تدريس اللغة العربية بالمختبر اللغوي وانتقل بعدها إلى الكويت ليعمل أربع سنوات في معهدي التربية للمعلمين والمعلمات، وجامعة الكويت وفي عام 1980 عيّن وكيلاً في كلية التربية بجامعة دمشق للشؤون العلمية، وفي عام 1984 عين خبيراً في المركز العربي لبحوث التعليم العالي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة وفي عام 1986 عمل عميدا لكلية التربية بجامعة دمشق لمدة ست سنوات لينتخب بعدها مديراً لقطاع التربية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من عام 1992 إلى 1996.
وقد عمل الدكتور السيد رئيس تحرير لخمس مجلات محكمة وهي المجلة العربية لبحوث التعليم العالي لينتقل إلى رئاسة تحرير مجلة «التّعريب» الصادرة عن مركز «التعريب والتأليف والتّرجمة والنّشر» التّابع لمنظمة «الألكسو» إضافة إلى المجلة العربية للتربية، ومجلة جامعة دمشق للعلوم التربوية والنفسية، ومجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.
مجمع اللغة العربية.. ومكانته في حياة السيد
كان العلامة السيّد عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضواً عاملاً في اتحاد المجامع العلمية اللغوية، وعضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في عام 1994 ليصبح عضواً عاملاً في عام 2013، وانتخب عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 2001، وسمي عضواً في مجمع الشارقة عام 2022، وعمل نائباً لرئيس مجمع دمشق 13 عاماً، ثم انتخب رئيساً له عام 2022، كما عمل رئيساً للجنة التمكين للغة العربية خمس عشرة سنة.
ولمجمع اللغة العربية مكانة خاصة لديه فقد أسهم في وضع المصطلحات الإعلامية والتربوية، وفي إلقاء المحاضرات وعقد الندوات، والإسهام في المؤتمرات، وفي إنجاز البحوث وتأليف الكتب، فكان شريكاً أساسياً في إنجاز المعاجم في مختلف ميادين المعرفة، بهدف إغناء اللغة بالمستجدات المعاصرة، وبقي المجمع حارساً للعربية الفصحى، وعاملاً على خدمتها.
ويرى السيّد أن مجمع اللغة العربية في دمشق يعد أبا المجامع اللغوية منذ تأسيسه قبل ما يزيد على قرن كامل ولا سيما أنه أظهر خلالها حرصاً لا نظير له في وضع المصطلحات باللغة الأم العربية الفصيحة مقابل المصطلحات الأجنبية والحفاظ على اللغة وصونها، وكان للدكتور السيّد دور بارز في لجنة التمكين العليا للغة العربية عبر التنسيق الدائم مع المجمع لكونه المرجعية العليا لشؤون العربية بحكم القانون والذي يؤكد دائماً أن اللغة العربية تشكل أحد أركان التنوع الثقافي للبشرية برمتها، وهي إحدى اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة، وتشكل حاملاً حضارياً وتاريخياً وثقافياً للإنسانية جمعاء.
السيد مديراً عاماً للموسوعة العربية
كُلّف السيّد مديراً عاماً لهيئة الموسوعة العربية عام 2013، واستمر في إدارتها حتى نهاية عام 2021 حيث أصدرت الهيئة بإشرافه مجلدات عدة في الطب والعلوم والتقانة والآثار، وكانت الهيئة قد تأسست عام 1988، وهي الآن مرتبطة بوزارة الثقافة.
قطوف السيد الفكرية على صفحات مؤلفاته
كان من الطبيعي لمثل هذا الجهد العلمي الموفور أن يواكبه عدد ضخم من الكتب المؤلفة التي تتناثر على صفحاتها قطوف من فكره التربوي والثقافي ولوامع من إسهاماته في تأصيل هذا الفكر وصبغه دوما بالطابع العروبي، والاعتزاز بتراث الأمة العربية حيث أخذت مؤلفاته المطبوعة تصب في جوانب شتى تربوية وثقافية وأدبية ونفسية وتثري كثيراً من اهتمامات صاحبها في كل المواقع التي أتيح لها أن تظفر ببعض قدرته على العطاء وجديته في تحمل المسؤولية، ووفرة ما يتدفق به فكره من مقترحات وتوصيات وحلول واقتحام لآفاق جديدة في سياق مغامرته العلمية الطويلة وجهوده الطيبة المثمرة.
وأغنى الباحث والمفكر السيد المكتبة العربية بما يزيد على أكثر من ستين مؤلفاً منشوراً في مجالات التربية والثقافة واللغة، وما يزيد على مئة بحث منشور في المجلات المتخصصة، وله إسهامات في مجال الإعلام «برامج إذاعية وتلفزية وندوات ثقافية في سورية والكويت وتونس والسعودية والبحرين».
واتسع اهتمامه أيضاً بالآفاق المستقبلية للتربية العربية وقضايا الثقافة وتراثنا العربي ومشكلات النظام التربوي والأداء اللغوي وطرائق تعليم اللغة للأطفال واللغة العربية وتحديات العصر وقضايا التعريب والخطة العامة لتعريب التعليم والإسهام في الموسوعة العربية والنهوض باللغة العربية والتمكين لها والخطة العامة لتنسيق التعريب والمعاصرة والتراث وكلها عناوين لبعض من كتبه والتي تجاوزت ستين مؤلفا تضرب بسهام نافذة في مجالات واسعة خلاصتها الانتماء العربي والهوية العربية وجدل الحاضر والمستقبل واللغة العربية أداءً وتعليماً وتعلماً.
المناصب الإدارية التي تبوأها
علمه العميق وفكره الثاقب ومعرفته الواسعة دفعت به إلى تبوئه العديد من الأماكن المتقدمة والرائدة حيث تقلد العديد من المناصب آخرها رئيس المجمع العربي بدمشق حيث عمل عميداً لكلية التربية بجامعة دمشق ومديراً لقطاع التربية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألكسو” بتونس ووزيراً للتربية ثم وزيرا للثقافة بين عامي 2000 و2006 موزعة بالتساوي على الوزارتين وليصبح بعد ذلك عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بدمشق فنائباً لرئيسه وتدرج من عضوية اتحاد مجامع اللغة العربية ليكون رئيساً منتخباً للمجلس العلمي لمكتب تنسيق التعريب في الرباط فمكلفاً بأعمال المدير العام لهيئة الموسوعة العربية، وكان رئيساً للجنة التمكين للغة العربية من 2007 حتى نهاية 2021 فإذا انتقلنا إلى خبراته وإسهاماته الأكاديمية في مجال التعليم العالي وجدناه أستاذاً في عدة جامعات عربية في دمشق ووهران والكويت إضافة إلى جامعات أجنبية هي سيانا في إيطاليا وعدة جامعات صينية، ومشرفاً على عشرات الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه في التربية بجامعة دمشق ومناقشاً لعشرات الرسائل في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان وجامعة البحرين وتونس والجامعات السورية وعضواً بالهيئة الاستشارية لعدد من المجلات التربوية في عدة دول عربية، ومقوّماً للنتاج العلمي بقصد الترقية في جامعات عربية عدة “الكويت- السعودية- فلسطين- الأردن- الإمارات، سورية …إلخ”.
فكر أدبي استحق التكريم في أبهى صوره
نال السيد مؤخراً جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في ثلاث دورات متتابعة، والمكونة من ثمانية عشر محكماً من ست دول عربية وأجنبية ولقد أبانت لجان التحكيم الثلاث أن السبب في فوز الدكتور السيّد بالجائزة يرجع إلى تميز إسهاماته في خدمة اللغة العربية، ولغزارة الإنتاج العلمي في مجال تعليم لغة الضاد، وطول التجربة وتنوعها بين النتاج النظري والممارسات التطبيقية وتحقيق الاستدامة في خدمة مجمع اللغة العربية محلياً وإقليمياً، إضافة إلى المكانة العلمية التي يتمتع بها على الصعيدين المحلي والدولي.
كما حصل العالم والمفكر السيّد على العديد من الجوائز وشهادات التقدير من مختلف أنحاء الوطن العربي وكان آخرها جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بالسعودية في مجال تعليم لغة الضاد وتعلمها إضافة إلى نيله الجائزة التقديرية للتربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 2002، وتكريمه من جامعة الدول العربية عام 2008، وجائزة الدولة التقديرية لعام 2018 من قبل وزارة الثقافة السورية.