للمدن القديمة والأثرية هويتها الخاصة بما تحمله من تنوع ثقافي واجتماعي نتيجة تعاقب الحضارات عليها، وتعد مدينة طرطوس القديمة واحدة من أهم المدن الأثرية ذات طراز معماري مميز ومن المدن التاريخية المأهولة بالسكان والمسجلة على لائحة التراث الوطني في سورية.
مجتمع المدينة القديمة مرتبط بالبحر وجدانياً وهذا ما يتضح من حماسة أبنائه للعمل بالبحر، حيث يتسم بالبساطة والطيبة والتعاون والتماسك والتكافل الاجتماعي ويعيش مجموعة من القيم الثقافية ويحافظ على عاداته وتقاليده الموروثة من خلال ممارسات مرتبطة بالمكان وبالبحر.
وتحتفظ المدينة القديمة بمعظم معالمها المعمارية والأشكال الهندسية المنسجمة مع أسس التخطيط العمراني الذي يتمتع بنظام دفاعي مميز، وتتألف من مجموعة مستويات من الحماية منها المدينة الأسقفية حيث الكاتدرائية التي تعد من أهم وأجمل المباني المعمارية وما زالت تحافظ على طرازها المعماري من القرون الوسطى، بالإضافة إلى متانتها رغم الحوادث التي مرت بها وتأثير العوامل الجوية القاسية كونها تقع بالقرب من الساحل.
وتتركز المدينة القديمة وسط طرطوس وتطل على البحر الأبيض المتوسط وتتميز بقربها من جزيرة أرواد والمرفأ وتأخذ شكل نصف دائرة متجهة نحو البحر وتتوزع على قطاعين رئيسيين؛ الأول القلعة وتشمل (الواجهة البحرية والخندق والساحة) والثاني الشريحة الانتقالية (السهلة وجزء من الخراب)، ولها أيضاً أربعة مداخل رئيسية تسمى باسم جامع البلدية والكورنيش البحري وجامع السلام والسهلة.
وفي حديث لسانا قالت مديرة المدينة القديمة ميرفت عثمان: “إن المدينة القديمة تضم كاتدرائية سيدة طرطوس والتي تعد أول كنيسة مكرسة باسم السيدة العذراء في الشرق وحظيت بالاهتمام في زمن البيزنطيين وأعيد بناؤها في عهد الصليبين، وتتميز بطابعها المعماري الفرنجي ويعود للقرن الثالث عشر وتراجعت أهميتها بعد خروج الفرنجة من طرطوس وتحولت لجامع عام 1851م ومن ثم حولتها وزارة الثقافة عام 1914م إلى متحف”.
ومن المعالم الأثرية في المدينة القديمة أيضاً أضافت ميرفت عثمان: “قلعة فرسان الهيكل الواقعة في القسم الشمالي الغربي من المدينة الأسقفية التي شكلت أساسا للحي السكني الذي بدأ يتشكل في العصر المملوكي حتى يومنا هذا”.
وأوضحت أن القلعة بنيت عام 1183 وهي مؤلفة من سور مضاعف محاط بخنادق مائية محفورة في الصخر ومدخلها الرئيسي يدعى برج البوابة، وفي القرن 13 الميلادي شيدت داخل الأسوار كل المباني التي تميز أي قلعة شرقية بتلك الفترة.
وأشارت عثمان إلى أن التطور العمراني لمدينة طرطوس الحالية بشكل عام وغياب اتخاذ إجراءات الحماية المبكرة لجميع مكونات المدينة الأثرية الأساسية أدى إلى تدمير جزء كبير من هذه المدينة وظهور أبنية جديدة وصلت إلى حدود المدينة القديمة، وبرغم ظهور إضافات عمرانية شاقولية حديثة داخل حي المدينة القديمة وأحياناً أفقية إلا أن نسيجها العمراني المتمثل بالأزقة والسوق والجوامع والحمام القديم مازال يتمتع بخصوصية مميزة ذات طابع تاريخي واضح.
وبالعودة لتاريخ المدينة القديمة يؤكد ملف “فهم السياق العام وتحديد هوية مدينة طرطوس القديمة” الذي أعدته الأمانة السورية للتنمية وفريق عمل مشروع المدينة القديمة بالتعاون مع مجموعة من أبناء المدينة القديمة والمجتمع المحلي، وخبراء وممثلين عن الجهات الحكومية والأهلية في طرطوس أن هذه المدينة تعد من أهم الأمثلة على استمرارية الحياة في المدن التاريخية السورية والتي تعكس التنوع الحضاري والثقافي الذي مرت به عبر العصور التاريخية المختلفة من الفينيقية واليونانية والرومانية والبيزنطية والعربية والإسلامية والصليبية والمملوكية حتى عصرنا الحالي.
ويستعرض الملف التسميات التي أطلقت على طرطوس والتي تعددت نتيجة لتنوع ثقافاتها فكان اسمها الإغريقي انترادوس أي البر المقابل لأرادوس (جزيرة أرواد) ومن انترادوس اشتقت كلمه انتارتوس العربية ومنها الاشتقاق الفرنجي تورتوسا وأخيرا الاسم الحالي طرطوس والذي يعود إلى الفترة المملوكية.
كما تعد مدينة طرطوس القديمة حسب المصادر التاريخية ميناء بحرياً منذ العصر الفينيقي 2000 قبل الميلاد، وكانت تعد من المستوطنات التجارية الهامة لمملكة أرواد الفينيقية.
وبين الملف أنه في القرون الميلادية الأولى جاءتها المسيحية مبكراً بزيارة القديسين لوقا وبطرس في أثناء طريقهما إلى روما، حيث قام لوقا برسم أيقونة للسيدة مريم وأقام بطرس قداسه الاحتفالي الأول، وبذلك كانت كنيسة انترادوس قبل وخلال الفترة البيزنطية قد كرست أول كنيسة في العالم باسم السيدة العذراء (متحف طرطوس حالياً) والتي أصبحت فيما بعد جزءا من المدينة الأسقفية الفرنجية في أثناء الاحتلال الفرنجي للبلاد.
وفي عام 638 ميلادي تم فتح مدينة طرطوس من قبل العرب المسلمين وأعيد بناؤها وحصنت بشكل جيد وحفظت في مدينه طرطوس نسخة من مصحف الخليفة عثمان بن عفان وعرفت باسم انطرطوسا في هذه الفترة.
وأوضح الملف أنه في عام 1099 ميلادي استطاع الفرنجة السيطرة عليها وشهدت في عصرهم ازدهارا اقتصادياً ملحوظاً في التجارة والصناعة وكانت مقصدا للحجاج المسيحيين من كل أنحاء العالم ومركزاً هاماً لقياداتهم.
وبين الملف أنه في عام 1188 تمكن صلاح الدين الأيوبي من تحرير أرواد وحاصر طرطوس فاحتل الكاتدرائية ولم يستطع تجاوز الأسوار الداخلية لقلعة طرطوس ضمن المدينة الأسقفية نظراً لارتفاعه ووجود الخندق المائي حولها، وفي عام 1291 ميلادي تم دحر الفرنجة على يد الأشرف خليل بن قلاوون وأخذت المدينة اسمها الحالي طرطوس.
وفي عام 1516ميلادي احتلها العثمانيون واتبعت لولاية طرابلس، ومن أبرز آثارهم الموجودة حاليا الحمام الشعبي والطراز المعماري للجامع العمري ودخلت المدينة كباقي الساحل السوري في فتره الانتداب الفرنسي عام 1919.
وحالياً تعتبر مدينة طرطوس القديمة واحدة من أهم المدن الأثرية المسجلة على قائمة التراث الوطني في سورية، حيث تم تسجيلها ضمن قائمة المدن الأثرية بموجب قرار وزارة الثقافة رقم 139 لعام 1999.
يشار إلى أن المدينة القديمة تقع شمال غرب مدينة طرطوس فوق مائدة صخرية منبسطة ممتدة على مسافة 300 متر وتنتهي هذه المائدة في الجهة الغربية عند الشاطئ مباشرة, وتطل على البحر مقابل جزيرة أرواد على مسافة 2 ونصف كيلومتر إلى الجنوب الغربي داخل البحر.