الخميس 22/12/2022
بديـع عفيـف
تكاد لا تتوقف الأحاديث التركية عن المصالحة مع سورية، وآخرها ما كشفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل أسبوعين عن أنه عرض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إجراء لقاء ثلاثي بين زعماء تركيا وروسيا وسورية. وكان أردوغان قد لفت قبل ذلك بوقت، إلى أنه لا توجد عداوات دائمة في السياسة!
يقال السياسة مصالح، وأردوغان يبحث عن مصالحه الشخصية ومصالح بلاده في جميع الاتجاهات في الداخل والخارج، وتتقلّب سياساته مع الجيران ومع الأقربين والأبعدين بحسب الهدف الذي يريد تحقيقه؛ مع مصر والمملكة العربية السعودية و”إسرائيل” وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية… الخ. ولكن للعلاقات مع الجمهورية العربية السورية وضع خاص، صعب ومعقّد بعدما أصبحت التدخلات الخارجية في الشأن السوري عديدة وكثيرة!
فقد انقلبت هذه العلاقات من “الصداقة” و”الأخوة” و/53/ اتفاقية ومذكرة تعاون وتفاهم قبل عام 2011، إلى عداوة وحرب دموية مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات. الذاكرة السورية مثخنة بالجراح ومليئة بالمواجع التي سببتها تركيا وأردوغان لسورية وللشعب السوري، والتي تراكمت منذ سلب لواء إسكندرون قبل قرابة ثمانية عقود، وحتى الآن.
ومع ذلك يكرر الرئيس التركي الحديث عن سلامة ووحدة الأراضي السورية فيما الواقع العملي على الأرض والأفعال التي يمارسهان تكذّب ذلك؛ فالجيش التركي يحتل أجزاء واسعة من الأراضي السورية ويدعم المجموعات المتطرفة التي تسيطر على أجزاء أخرى ولاسيما في محافظة إدلب السورية المحتلة؛ بل وأكثر من ذلك، فإنّ الحكومة التركية تقوم بتتريك المناطق التي تحتلها وتسيطر عليها وتفرض نظام التعليم التركي والتعامل بالليرة التركية، وتقوم حتى بتغيير العديد من أسماء القرى والمدن السورية التي تحتلها؛ تركيا التي دخلت الأراضي السورية دون موافقة الحكومة السورية؛ بل ضد رغبة وإرادة الدولة السورية العضو في الأمم المتحدة.
المشاكل التي خلقتها تركيا في الشمال السوري كثيرة ومعقدة ومتشابكة، لاسيما بعد وجود الاحتلال الأمريكي ودوره “التمزيقي” هناك، والكيانات الانفصالية التي خلقها ويحاول تثبيتها، والضغوط التي يمارسها بالتأكيد على شريكه التركي عضو حلف “الناتو”، وهذا يحتاج مناقشة أخرى منفصلة.
ولكن إذا كان لعلاقات “الجوار” السورية التركية أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب على سورية عام 2011، فإن ذلك يقتضي أن تنهي تركيا ـ بحُسن نية ـ كل إجراءات الاحتلال التي قامت بها منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم؛ أن تسحب تركيا قواتها من الأراضي السورية، وأن تزيل القواعد العسكرية التي أنشأتها، وأن توقف دعمها للجماعات المتطرفة التي تحميها في الشمال السوري، وأن تتوقف عن تتريك المناطق السورية التي تحتلها، وأن تلتزم بالاتفاقيات الموقعة بين البلدين… الخ؛ فهل أردوغان مستعد لذلك؟ سؤال يفرض نفسه، فيما المشكلة الكبرى أنّ “مصداقية” أردوغان تكاد تكون معدومة عند الحكومة السورية!
الأمر المهم اليوم بالنسبة للرئيس التركي هو التخلص من موضوع اللاجئين السوريين الضاغط في تركيا الذي تستخدمه المعارضة التركية ضده، لاسيما في ظل تراجع شعبية أردوغان وحزبه الحاكم بسبب ارتفاع التضخم وتراجع الاقتصاد التركي وانخفاض قيمة الليرة التركية وزيادة البطالة خصوصاً بين الشباب التركي المثقف، ما يجعل أردوغان قلقاً على مستقبله السياسي والشخصي إنْ فازت أحزاب المعارضة التركية التي لن ترحمه.
ومن خلال متابعة ما يكتب وينشر حول المصالحة السورية التركية المحتملة، ثمّة من يتحدث عن وعودٍ قد يقدّمها أردوغان لسورية؛ بأنَّ تركيا ستلبي المطالب السورية بعد الانتخابات الرئاسية التركية قبل منتصف العام القادم. ويتحدث أصحاب هذه المقولة عن ضمانات روسية إيرانية (حلفاء دمشق). والسؤال: هل يمكن لسورية أن تأمن جانب أردوغان المتقلّب المُناور؟ بل السؤال الحقيقي هو: أي ضمانات عملية يمكن أن تحملها روسيا وإيران لسورية؛ بمعنى إنْ تراجع أردوغان عن وعوده، تحت حجج وذرائع يختلقها في حينه، وماطل في تنفيذ التزاماته بعد أن يكون قد ضمن فوزه في الانتخابات، فماذا يستطيع أن يفعل الطرفان الضامنان؟
بالتأكيد تدرك الحكومة السورية وتتلمس الوضع الاقتصادي الصعب والقاسي الذي يعيشه الشعب السوري والبلاد بعد أكثر من عقد من الحرب والضغوط الاقتصادية والعقوبات الغربية على سورية، وقد كان لتركيا اليد الطولى في المأساة السورية، ولكنها ـ الحكومة السوريةـ لن تتنازل ولن تستسلم لرغبة الرئيس التركي التي يرجّح أن يحكمها التسويف والمماطلة وحماية مصالحه الشخصية ومصالح بلاده، كما حصل لاتفاقه مع الرئيس الروسي بخصوص طرد الإرهابيين من مدينة إدلب السورية؛ ولذلك نرى أنّ الحكومة السورية، وللمضي قدماً في التقارب مع نظيرتها التركية، فإنها ستأخذ أمرين مهمين ودقيقين في حساباتها؛
أولاً، ستطالب بجدول زمني واضح ومحدد تلتزم به تركيا ـ أردوغان لتحقيق المطالب السورية، وأن يتعهّد حلفاء سورية وهم أصدقاء الرئيس التركي بضمان التزام الأخير بتنفيذ ما اتفق عليه، وأن يبدأ تنفيذ هذا الجدول قبل إجراء الانتخابات الرئاسية التركية القادمة وليس بعدها؛ ثانياً، أن خسارة أردوغان الانتخابات الرئاسية ووصول المعارضة التركية إلى الحكم ليس شيئاً مضمون العواقب. فهذه المعارضة قد تكون أقرب إلى الولايات المتحدة واجندتها، وقد لا تكون الأمور أفضل حال معها رغم وعودها البراقة..!!