في الذكرى المئوية لولادة فاتح المدرس.. مدرسة فنية وثقافية وعلامة فارقة في عالم الفن التشكيلي السوري والعالمي

شكل الفنان التشكيلي فاتح المدرس علامة فارقة في عالم الفن التشكيلي السوري المعاصر من خلال مدرسته الفنية التي جمعت بين عملية الغرب وروحانية الشرق وغاصت في تفاصيل البيئة والحياة السورية.

وكان المدرس شخصية ثقافية بارزة ليس فقط على صعيد الفن التشكيلي وإنما امتد تأثيره ليشمل أصعدة ثقافية متعددة ومتنوعة كالأدب والموسيقا وفلسفة اللون والضوء وساهم في الدفع بالمشهد الثقافي بشكل متكامل نحو التجدد من ناحية والتجذر في بيئته من ناحية أخرى وهو أحد الفنانين العرب القلائل الذين تباع لوحاتهم في مزادات الفن العالمية بأسعار عالية.

ولد المدرس 1922 في قرية حريتان الواقعة شمال سورية بالقرب من مدينة حلب وغادر حياة الريف وهو في الثامنة من عمره ليقيم عند أعمامه بحي الفرافرة بحلب وهو حي يضم مجموعة من العائلات الأرستقراطية لكنه فضل الإقامة مع والدته في أحد البيوت البسيطة في حي باب النصر وحين دخل المدرسة الابتدائية اكتشف استاذ الرسم شريف بيرقدار موهبة الرسم لديه وفي مدرسة التجهيز الأولى ثانوية المأمون تعرف إلى أساتذة الفنون منيب النقشبندي وغالب سالم ووهبي الحريري وأخذ عنهم المبادئ المدرسية لفن الرسم والثقافة الفنية.

وفي مطلع الأربعينيات من القرن العشرين غادر المدرس حلب إلى لبنان ليتابع دراسته في الكلية الأمريكية حيث درس اللغة الانكليزية التي كانت وسيلته للاطلاع على الأدب والفن العالمي.

وحين عاد إلى حلب عمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في ثانويات حلب وبدأت مشاركاته الفنية في الرسم تظهر إلى جانب عدد من الفنانين الرواد كما ظهرت مساهماته الأدبية في الشعر والقصة التي كان ينشرها في الصحف والمجلات السورية.

تابع المدرس دراسته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس ونال الدكتوراه عام 1972 وعين أستاذاً للدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977 وكان عضواً مؤسساً في نقابة الفنون الجميلة في سورية ثم رئيساً لها خلال أحد عشر عاماً.

وفي عام 1952 شارك في المعرض الرسمي الذي أقيم في دمشق إلى جانب أبرز الفنانين السوريين ونال الجائزة الأولى في التصوير عن لوحته كفر جنة التي اعتبرها النقاد وقتئذ في طليعة الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر.

وفي عام 1954 وضع المدرس مؤلفاً من ثلاثة أجزاء عرض فيه موجز تاريخ الفنون الجميلة وكان ذلك مقدمة لإيفاده للدراسة الفنية في أكاديمية روما عام 1956 حيث اختار محترف الفنان الإيطالي جنتلليني الذي ترك أثره في منهج المدرس التعبيري الميتافيزيقي وخاصة في جوانبه المعمارية وإيقاعاته التكوينية ونبراته اللونية وهناك في روما التقى المدرس بالمفكر الفرنسي (جان بول سارتر) الذي ترجم له بعض قصائده إلى الفرنسية كما التقى بعدد من المثقفين العرب والغربيين.

وشكلت البيئة الريفية التي عاشها في طفولته مع أمه وعماته رافداً مهماً في مسيرته الإبداعية بما في ذلك من مفاهيم شرقية وعقائد وأساطير محلية ومفاهيم اجتماعية وإنسانية باتت تشكل مخزوناً كبيراً في ذاكرته التي تفاعلت مع كل الثقافات المحلية والعالمية.

نال المدرس الجائزة الأولى في معرض أقامته أكاديمية الفنون الجميلة في روما التي تخرج فيها عام 1960 وعاد إلى دمشق ليتخذ له محترفاً للرسم وسط المدينة ويتعين معيداً في كلية الفنون الجميلة بدمشق فور إحداثها عام 1961 وقد كان لقدومه على الكلية وقع خاص لدى طلابها الذين رأوا فيه فاتحاً لعهد جديد في الفن السوري.

ونال المدرس العديد من الجوائز والأوسمة محلياً وخارجياً من وسام الاستحقاق السوري الذي منح له بعد وفاته عام 2005 وجائزة الدولة للفنون عام 1985 والجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة بروما والميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي وميداليات عديدة فنية عربية وأجنبية.

وأقام المدرس عدداً من المعارض المشتركة منها معرض في روما مع (براك ميرو وشيندر وزادكين وبيكاسو وبومايستر عام 1972) ومعرض مشترك مع لؤي كيالي في متحف حلب 1976 واقتنيت أعماله من قبل عدد من الشخصيات العربية والعالمية.

والجانب الآخر من إبداع المدرس تجلى في الأدب فترك لنا ديوانين شعريين مشتركين (القمر الشرقي على شاطئ الغرب) مع شريف خرندار والزمن السيئ) مع حسين راجي ومجموعة قصصية بعنوان (عود النعنع) وأنتجت له المؤسسة العامة للسينما مجموعة من قصصه في فيلم واحد حمل اسم (العار) عام 1974 وتناول معاناة أبناء الريف السوري زمن الإقطاع