عِنْدَما وَصَلَ فُؤادٌ إلى ضِفَّةِ النَّهْرِ، لَمْ يَتناهَ إلى سَمْعِهِ خَريرُ مِياهِهِ كَما أَلِفَ دائِماً أَنْ يَسْمَعَهُ وَهُوَ يَمْشي الْهُوَيْنَى عَلى إِحْدى ضِفَّتَيْهِ مَتى سَنَحَتْ لَهُ أَوقاتُ فَراغِهِ بِزِيارَتِهِ. صَمْتٌ رَهيبٌ خيم على المكان هذا الصَّباحَ، ذَهِلَ فُؤادٌ لِما يَحْدُثُ، ساوَرَهُ الشَكُّ أن تَكونَ أُذُناهُ قد أصابهما الصَّمَمُ، لِيَتَأَكَّدَ مِنْ سَلامَتِهِما أَطْلَقَ صَفيرًا تردَّدَ صَداهُ بَين أَشْجارِ الْغابَة فَاطْمَأنَّ قَلْبُهُ لسَلامَةِ أُذُنَيْهِ. حَبَسَ أَنْفاسَهُ وَاسْتَغْرَقَ يُفَكِّرُ هُنَيْهَةً ما سرُّ وُجومِ صَديقِي النَّهْرِ؟ وَتَساءَلَ في قَرارَةِ نَفْسِهِ مَتَى يُمَزِّقُ خَريرُهُ غِشاءَ هَذا الصَّمْتِ الْمُطْبَقِ، ويعزف لحنا بديعا مُنْسَجِماً مَعَ تَغْريدَةِ بُلْبُلٍ، أَوْ رَفْرَفَةِ شُحْرورٍ، أَوْ حَفيفِ وَرَقَةٍ، أَوْ دَبيبِ أَرْنَبٍ وَهُوَ يَنِطُّ مُمْتَلِئَ الْبَطْنِ بَيْنَ الْخَمائِلِ، أَوْ هَديلِ حَمامَةٍ، أَوْ هَبَّةِ نَسيمٍ عَليلَةٍ.
لَمَّا خَابَ أَمَلُهُ في سَماعِ أَيِّ رَدَّةِ فِعْلٍ مِنْ صَديقِهِ الْكَريمِ، نادى بِأَعْلىَ صَوْتِهِ، يَا نَهْرُ أنا صَديقُكَ فُؤادٌ هَلْ تَسْمَعُني! كَرَّرَها ثَلاثاً، ثُمَّ لاذَ بِالصَّمْتِ يَتَرَقَّبُ مُتَوَجِّسًا صُدورَ صَوتٍ، مِنْ هُنا أَوْ هُناكَ يُزيحُ عَنْ نَفْسِهِ غَشاوَةَ الْقَلَقِ الَّذي اعْتراهُ.
فَجْأَةً سَمِعَ صوتا يُناديهِ بِاسْمِهِ بِرِقَّةٍ وَعُذوبَةٍ وَحَنانٍ، أزاحَ عَنْ نَفْسِهِ الرَّوْعَ: فؤادٌ؛ اِعْتَرَتْهُ قُشَعْريرَةُ فَرَحٍ مَشوبٍ بالْهَلَعِ، وَهُوَ يَتَحَسَّسُ فِي حَذَرٍ مَصْدَرَ النِّداء، وَإِنْ بَدا لَهُ لَطيفًا وَجميلاً وَهادِئَا لُطْفَ، وَجَمالَ وهُدوءَ يَوْمِهِ الرّائِعِ هذا في هَذِهِ الْغابَةِ الِفَيْحاءِ الْحَسْناءِ. صباحُ الْخيرِ يا فُؤادُ، خَفَقَ قَلْبُ فُؤادٍ مُرَحِّباً بِالتَّحِيَّةِ لَكِنْ بشَيْءٍ مِنَ التَوَجُّسٍ، مادامَ لَمْ يَتَعَرَّفْ بَعْدُ مُكَلِّمَهُ. أَرْدَفَ صاحِبُ التَّحِيَّةِ: لَعَلَّكَ لَمْ تَعْرفْني، يا فُؤادُ! مَعَ أَنَّنا صَديقانِ؛ نَتَقاسَمُ الْحُبَّ والْأَفْراحَ، لَطالَما تَبادَلْنا في لِقاءاتِنا السّابِقَةِ الطَّيِّبَةِ، الْحِكاياتِ الْجَميلَةَ، وَقَصَصْنا على بَعْضِنا بَعْضٍ شَريطَ أَحْلامِنا الْمُمْتِعَةِ الْهَنيئَةِ. لَكَمْ كانَ يَرُوقُكَ اسْتِغْراقُكَ في تَأَمُّلِ وَجْهي، وَأْنْتَ تَطْرَبُ لِأَلْحاني الَّتي قُلْتَ عَنْها ذاتَ لَحْظَةٍ، أَنْ لا أحَدَ مِنَ الْعازِفينَ عَزَفَ مِثْلَها، حينَ أَسْمَعْتُكَ مَعْزوفَةً عَذْبَةً، تَماهتْ وَتَغاريدَ الْعَصافيرِ، وَتَراقَصَتْ على نَغَماتِها الْفَراشاتُ، وَذابَ فيها طَنينُ النَّحْلِ، وَهُوَ يَمْتَصُّ رَحيقَ الْأَزْهارِ، وَيَمْلَأُ الْجَوَّ سُرورًا وَحُبورًا بِلا كَسَلٍ. اِسْتَمَرَّ فُؤادٌ يُنْصِتُ في خُشوعٍ إِلى الصَّوْتِ الرَّخيمِ الْعْذبِ، شاحِذًا ذاكِرَتَهُ لِمَعْرِفَةِ صاحِبِهِ، لَكِنَّ ذاكِرَتَهُ لَمْ يُسْعِفْها الْحَظُّ في ذَلِكَ، نَفَدَ صَبْرُهُ، فسأَلَهُ: قُلْ لي مَنْ أَنْتَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي، لَقَدْ شَوَّقْتَني كَثيرًا لِمعْرِفَتِكَ يا هَذا!
وَبَيْنَما فُؤادٌ مُطْرِقٌ يَنْتَظِرُ الْجَوابَ، إِذْ بِهِ يَسْمَعُ حَفيفًا بَيْنَ أَغْصانِ شَجَرِةِ حُورٍ سامِقَةٍ كَانَ قَدْ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَيْها، رَفَعَ بَصَرَهُ إلى أَعْلاها، حَيْثُ لاحَظ َغُصْنًا فَتِيًّا يَئِنُّ مُتَرَنِّحًا، ما لَبِثَ أَنْ تَخَلَّصَ مِنْ عِبْءِ كانَ يُثْقِلُ كاهِلَهُ وَأَلْقاهُ عِنْدَ قَدَمَيْهِ:
- أَ يْ أَيْ أَيْ.
- رَيانُ؛ ماذا دَهاكَ؟
- كُنْتُ أَضَعُ بَعْضَ الْأَشِّ في أَعْشاشِ الْعَصافيرِ.
- لِمَ أَتْعَبْتَ نَفْسَكَ حَتَّى كِدْتَ تُهْلِكَها؛ أَلا تَعْلَمُ أَنَّ الْعَصافيرَ مِنْ أَنْشَطِ مَخْلوقاتِ اللَّهِ، فَهِيَ لا تُحِبُّ الْكَسَلَ وتَكْرَهُ التَّواكُلَ، تَغْدو خِماصًا وَتَروحُ بِطانًا؟
- أُريدُ أَنْ أُوَفِّرَ عَنْها بَعْضَ التَّعَبِ، وَلِتَنْمُوَ فِراخُها سَريعًا.
- فَقَطْ؛ أَمْ لِغَرَضٍ في نَفْسِ قَفَصِكَ؟
- – ما الْعَيْبُ إِذا رَبَّيْتُها في قَفَصي؛ فَهُوَ واسِعٌ وَجميلٌ، وَفيهِ تَجِدُ كُلَّ ما تَحْتاجُهُ من طَعامٍ وماءٍ؟
- – وَهَلْ قَفَصُكَ أَرْحَبُ وأَجْمَلُ مِنْ هَذا الْفَضاءِ؟
- لَكِنَّهُ يَحْميها مِنَ الْقَرِّ وَالْحَرِّ، وَمِنْ خَطَرِ أَنْيابِ وَمَخالِبِ الْحَيواناتِ الْمُفْتَرِسَةِ.
- – رُبَّما؛ لَكِنَّ قَفَصَكَ لَنْ يَسَعَها كَيْ تَنْشُرَ أَجْنِحَتَها، كَما تَنْشُرُها بِكُلِّ راحَةٍ في السَّماءِ؟
سَعْيًا مِنْهُ لِثَنْيِ فُؤادٍ عَنِ مُواصَلَةِ تَقْريعِه إِيّاهُ، اِنْتَصَبَ رَيانُ واقِفًا يَتَحَسَّسُ خَصْرَهُ وَأَطْرافَهُ، وَسأَلَهُ:
- كِدْتَ تُنْسيني شَيْئًا مُهِمًّا.
- ما هُو؟
- سَمِعْتُكَ وَأَنا أَعْلى الشَّجَرَةِ تَتَكَلَّمُ!
- تَتَمَّتَّعُ بِحاسَّةِ سَمْعٍ قَوِيَّةٍ، لَيْتَكَ تَسْمَعُ نَصيحَتي، لِتَدَعَ الْعَصافيرَ تَنْعَمُ وتَسْتَمْتِعُ بِحُرِّيَّـتِها.
- لَيْسَ قَبْلَ أنْ تُخْبِرْني مَعَ مَنْ كُنْتَ تَتَحَدَّثُ؟
- كُنْتُ أَتَكَلَّمُ مَعَ النَّهْرِ.
- أَتَسْخَرُ مِنِّي يا صَديقي؟
- أبَدًا.
- – تَظُنُّني سَأُصَدِّقُكَ؟
- هَلْ كَذِبْتُ عَلَيْكَ يَوْمًا ما يا رَيانُ؟
- صَحيحٌ أَنَّكَ لَمْ تَكْذِبْ قَطُّ، لَكنَّني أَراكَ تَهْذي، هَلْ تُعاني مِنَ الْحُمَّى؟
وَبَيْنَما هُمَا يَتَجادَلانِ، إِذْ بِصَوْتٍ مِنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْمُقابِلَةِ لِلضِّفَّة الَّتي هُما عَلَيْها، يَقْطَعُ حَبْلَ حَديثِهِما، فَشَرَعَا يُرْهِفانِ السَّمْعَ إِلَيْهِ مُتَوَّجِّسَيْنِ، صَوْتٌ لا مَثيلَ لَهُ بَيْنَ الْأَصْواتِ الَّتي يَعْرِفانِها، صَوْتٌ هُو مَزيجٌ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْعُذوبَةِ وَالصَّفاءِ واللُّطْفِ، مِمّا جَعَلَهُما عاجِزَيْنِ عَنْ وَصْفِهِ.
- تَعالَ يا رَيانُ، لِنَعْبُرْ إِلى الضِّفَّةِ الْأُخْرى، لَقْدْ لاحَظْتُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الصَّوْتَ يَنْبَعِثُ مِنْ هُناكَ؛ حَيْثُ تِلْكَ الْخَميلَةُ.
ما هِيَ إِلّا ثَوانٍ، حَتَّى كانَا عِنْدَ الْخَميلَةِ، وَما كادا يُطِلّانِ على صَفْحَةِ الْماءِ الْمُتَدَفِّقِ تَحْتَ قَدَمَيْهِما، حَتَّى صاحَ رَيانُ مَذْعورًا مُتَقَهْقِرًا:
- لَقَدْ رَأَيْتُهُ.
- رَأَيْتَ ماذا؟ قَالَ فُؤادٌ.
- رَأَيْتُ صاحِبَ الصَّوتِ طَبْعًا.
- هَلْ رَأَيْتَ سَمَكَةً؟
- لا.
- سُلَحْفاةً؟
- لا.
- – ضِفْدَعَةً؟
- صَدِّقْني رَأَيْتُهُ هُوَ!
- صِفْهُ لي!
- لَهُ وَجْهانِ؛ تارَةً يَبْدُوانِ مُلْتَصِقَيْنْ عَلَى مُسْتَوى الْخَدَّيْنِ، وَتارَةً مُنْفَصِلَيْنِ عَلى شَكْلِ بِطِّيخَتَيْنِ.
- وَجْهانِ على شَكْلِ بطِّخَتَيْنِ؟!
- إِنْ لَمْ تُصَدِّقْني؛ اِلْقِ نَظْرَةً مِنْ هُنا.
- كاخ كاخ كاخ.
- لِمَ تَضْحَكُ؛ هَيّا نَهْرُب قَبْلَ أَنْ يَسْحَبَنا إِلى قاعِ النَّهْرِ فَيُغْرِقَنا.
- قَبْلَ ذَلِكَ لِنُلْقِ سَوِيًّا نَظْرَةً عَلَيْهِ.
- هَلْ رَأَيْتَهُ؟
- نَعَمْ؛ رَأَيْتُهُ تَمامًا كَما وَصَفْتَهَ لي، بِوَجْهِ بَطيخَتَيْنِ، إِحْداهُما تَحْمِلُ نَظّارَتَيْنِ طِبِّيَتَيْنِ، مِثْلَ نَظّارَتَيْكَ وَأُخْرى سافِرةً.
- ماذا نَنْتظِرُ لِنُخْلِ الْمَكانَ!
- اُتْرُكْ يَدي يا صَديقي، إِنَّكَ تَكادُ تَدْفَعُني نَحْوَهُ، كاخ كاخ كاخ!
- ما الَّذي فَتَحَ شَهِيَّتَكَ لِلضَّحِكِ، وَنَحْنُ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ الْخَطَرِ يا فُؤادُ!؟
- – اِنْفَتَحَتْ شَهِيَّتي لِلضَّحِكِ؛ بِسَبَبِ خَوْفِكَ الَّذي أَفْقَدَكَ تَرْكيزَكَ، حَتّى خِلْتَ وَجْهَيْنا وَجْهَ صاحِبِ الصَّوْتِ الْمُريبِ.
في اللّحْظةِ الَّتي تَوَقَّف فيها الصَّديقانِ عَنِ الْكَلامِ والضَّحِكِ، اِنْبَجَسَ مِنَ الْمَكانِ الَّذي كانَا يَرْنُوانِ إِلَيْهِ في النَّهْرِ الصَوْتُ الْغَريبُ، فالْتَفَتَ فُؤادٌ إِلى رَيانَ قائِلًا:
- أَسَمِعْتَ؛ هَذا الصَّوْتَ إِنَّهُ يُشْبِهُ ذلِكَ الَّذي حَدَّثْتُكَ عَنْهُ آنِفًا؟
ما كادَ رَيانُ يُؤَكِّدُ ما قالَهُ صَديقُهُ لَهُ بِطَأْطَأَةِ رأْسِهِ مَشْدوهًا إِلى مَصْدَرِ الصَّوْتِ، حَتَّى انْبَجَسَ مِنْ عَيْنِ الْمَكانِ نَفْسُ الَّصَّوْتِ، قائِلًا:
- مَرْحَبًا فُؤادُ؛ مَنْ هَذا الَّذي بِجانِبِكَ؟
- إِنَّهُ صَديقي رَيانُ. رَدَّ فُؤادٌ مُتَلَعْثِمًا.
- مَرْحَبا بِهِ، لِمَ يَبْدو شاحِبَ الْوَجْهِ؟
- لَقَدْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَخْلوقًا غَريبًا يَقْبَعُ تَحْتَ الْماءِ، وَأَنا أَيْضًأ، قُلْ لَنا مَنْ أَنْتَ؟
- أَنا النَّهْرُ!
- صَوْتُكَ جَميلٌ رَغْمَ نَبْرَتِهِ الشَّجِيَّةِ، إِنَّهُ مَزيجٌ مِنْ شَقْشَقَةِ الْعَصافيرِ وَهَفيفِ رَفْرَفَةِ أَجْنِحَتِها، وَحَفيفِ أَوْراقِ الْأَشْجارِ، وَخَريرِ ماءِ الْجَداولِ، وَهُبوبِ الْأَنْسامِ الْعَليلَةِ، الَّتي لا تُحَرِّكُ شَجَرًا وَلا تَعْفي أَثَرًا، قالَ ريانُ.
- يا فُؤادُ؛ قَبْلَ مَجيءِ رَيانَ، نادَيْتُكَ كَيْ أُعَبِّرَ لَكَ عَمَّا أُعانيهِ مِنْ قَلَقٍ، جَرّاءَ خَطَرٍ أصْبَحَ يُهَدِّدُ سَلامَةَ حَياتي، وَيَحْرِمُني مُتْعَةَ الْعَيْشِ الرَّغيدِ.
- ياااه! صاحَ الصَّبِيانِ مُتَعَّجِّبَيْنِ.
- مِمَّ تَتَعَجَّبانِ؟
- – أتَشْعُرُ كَما نَشْعُرُ، وَتَقْلَقُ كَما نَقْلَقُ نَحْنُ!؟
- أَجَلْ أَنا مِثْلُكُمْ؛ أَفْرَحُ وَأَحْزَنُ، وَأَمْرَحُ وَأَتْرَحُ، وَأَسْعَدُ وَأَشْقىَ، وَأَهْدَأُ وَأَغْضَبُ، وَأَغْفو وأَصْحو، وَأَحْيا وَأَموتُ.
- جَميلٌ؛ إِذَنْ ما سَبَبُ قَلَقِكَ.
- – لَقَدْ عَوَّدْتُكُما وَسائِرَ أصْدِقائي مِنْ أَشْجارٍ، وَأَزْهارٍ، وَأَطْيارٍ، وَفراشاتٍ، وَأَسْماكٍ، وَسَلاحِفَ، وَضفادِعَ وَأَرانِبَ، وَقَنادِسَ وَزَواحِفَ، أَنَّنِي دائِمًا كُنْتُ وَديعًا، وَطَيِّبًا وَكَريمًا مَعَ الْجَميعِ، أَغْتَبِطُ لارْتِواءِ الظَّمْآنِ بِمَعيني، وَأَسْعَدُ لِلْمُسْتَحِّمِّ وَهُوَ يَنْتَعِشُ بِمائِي، وأَمْرَحُ لِمَرَحِ مَنْ يَسْبَحُ وَيَعيشُ مُطْمَئِنًّا بَيْنَ أَحْضانِي. وسَخائي وَأَرْيَحِيَتي عَمَّا سُفوحَ الْجِبالِ وَالتِّلالِ، وَامْتَدَّ إِلى الْوِهادِ والسُّهولِ، دونَ كَلَلٍ أَوْ مَلَلٍ.
- كَمْ أَنْتَ عَظيمٌ أَيُّها النَّهْرُ الْجَميلُ! قالَ فُؤادٌ.
- ما أَلْطَفَكَ أَنْتَ كَريمٌ وَوَديعٌ! قالَ رَيانُ.
شَكَرَ النَّهْرُ الصَبِيَيْنِ عَلى حُسْنِ نِيَّتِهِما وَإِصْغائِهِما، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ يَسْرُدُ لَهُما قِصَّتَهُ، نُزولًا عِنْدَ رَغْبَتِهِما.
- كَثيرونَ هُمْ الَّذينَ يَسْعَوْنَ سَعْيًا حَثيثًا إِلى الْإِساءَةِ إِلَيَّ.
- مَنْ هُمْ هَؤُلاءِ ناكِرو الْمَعْروفِ؟
- سُكّانُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى مِنْ أرْبابِ الْمَعامِلِ وَأَصْحابِ الْمَزارِعِ.
- كَيْفَ سَوَّلَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَنَكَّروا لِجميلِكَ؟
- جَهْلُهُمْ يا صَغيرَيَّ.
- قَبَّحَ اللَّهُ الْجَهْلَ، قالَ فُؤادٌ وَهُوَ يَتَنَقَّلُ بِبَصَرِهِ، بَيْنَ النَّهْرِ وَرَيانَ الَّذي رَدَّ عَلَيْهِ صَدَقَ مَنْ قالَ: اَلْعِلْمُ نورٌ وَالْجَهْلُ عارٌ.
واستَمَرَّ النَّهْرُ يَحْكي قِصَّتَهُ بِصَوْتٍ شَجِيٍّ: مِمّا يَحُزُّ في نَفْسي؛ أَنَّهُمْ بَعْدَ اعْتِدائِهِمْ عَلَيَّ، بِتَلْويثِ مِياهِي الْعَذْبَةِ الرَّقْراقَةِ بِعَوادِمِ بُيوتِهِمْ، وَمصانِعِهمْ، عَبْرَ قَنَواتِ الصَّرْفِ الصِّحِّي، وَما تَحْتَويهِ مِنْ مَوادَّ كيماوِيَّةٍ، وَمُبيداتٍ وَقاذوراتٍ، وَمُتَلاشِياتٍ، وَتَكَدَّرْتْ مِياهي الجْارِيَةِ وَصارتْ نَتِنَةً؛ قالوا: هَذا نَهْرٌ ماؤُهٌ مَسْمومٌ لا تَشْرَبوهُ، رائِحَتُهُ نَتِنَةٌ لا تَقْرَبوهُ، إِنَّهُ ضارٌّ فَارْدِموهُ، هَكَذا يَتِمُّ الْقَضاءُ عَلَيَّ وَعَلى حَياةِ كُلِّ كائِنٍ وجودُهُ رَهينٌ بِوُجودي. لا أُذيعُ سِرًّا إِذَا قُلْتُ لَكُمَا: لَوْلا الْمَحَبَّةُ الَّتي تَنْضَحُ في قَلْبَيْكُمَا، لَكُنْتُ غَيَّرْتُ مَجرايَ، ولَكِنَّنِي آثَرْتُ الْبقَاءَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمَا ذَلِكَ لِأَنَّنِي أُحِبُّكُمَا كَمَا تُحِبّانِني.
بِغُصَّةٍ خانِقَةٍ، وَلَوْعَةٍ دَفينَةٍ، واصَلَ النَّهْرُ حَديثَهُ، كاتِمًا بَيْنَ حَناياهُ حَشْرَجةَ أَلَمِهِ، وفُؤادٌ وَرَيانُ يُصيخانِ إِلَيْهِ السَّمْعَ بِاهْتِمامٍ بالِغٍ، دونَ أَنْ تَرِفَّ أَجْفانُهُما.
ذاتَ لَحْظَةِ تَأَثُّرٍ؛ نَظَرَا كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما إِلى الْآخَرِ، وَقَدِ اغْرَوْرَقَتْ عُيونُهُما رَأْفَةً وَشَفَقَةً، بِدُموعٍ تَدَحْرَجَتْ عَلى خُدودِهِما الْأَسيلَةِ غَزيرَةً حارَّةً. ثُمَّ قالا بِصَوْتٍ واحِدٍ بَعْدَ أَنْ تَمالَكا زِمامَ نَفْسَيْهِما: لا تَقْلَقْ يا صَديقَنا الْكَريمَ؛ لَنْ نَتْرُكَكَ تُواجِهُ مَصيرَكَ وَحْدَكَ، بِمَقْدورِنا مُساعدَتَكَ. اِسْتَرْجَعَ النَّهْرُ رَباطَةَ جَأْشِهِ، شَكَرَهُما بِرَقْصَةٍ ظَريفَةٍ بِمُوَيْجاتِهِ وَتَساءَلَ في قَرارَةِ نَفْسِهِ؛ كَيْفَ لِطِفْلَيْنِ وَديعَيْنِ أَنْ يُواجِها جَيْشًا جَرَّارًا مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُخْطِئينَ؟
بَعْدَ لَحْظَةِ تَرَوٍّ، قال فُؤادٌ لِرَيانَ:
– ما رَأْيُكَ لَوْ أَسْرَعْنا بِتَنْظيمِ حَمْلَةٍ تَحْسيسيَّةٍ في هَذا الشَّأْنِ بَيْنَ صُفوفِ زُمَلائِنا في الْمَدْرَسَةِ؟
– فِكْرَةٌ نَيِّرَةٌ؛ هَكَذا سَيَكونُ الْجميعُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ الْخَطَرِ الْجَسيمِ، الَّذي يَحيقُ بِصديقِنا النَّهْرِ.
– أَوَّلُ خَطْوَةٍ سَنَخْطُوها في هَذا الْاتِّجاهِ، سَنَبْدَأُها مِنْ نادي الْبيئَةِ، سَنَقومُ بِالْتقاطِ صُوَّرٍ حَيْثُ تَقْذِفُ قَنَواتُ الصَّرْفِ الصِّحِّيِّ، وَمَجاري الْمَصانِعِ عَوادِمَها في النَّهْرِ، وَسَنَرْفِقُ تِلْكَ الصُّوَّرَ بِتَقريرٍ مُفَصَّلٍ حَوْلَ أَسْبابِ تَلَوُّثِ الْمِياهِ وَما يَتَرَّتَّبُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَخْطار،ٍ قَدْ تُهَدِّدُ حَياةَ النّْهْرِ والْإِنْسانِ والْحَيَوانِ وَالنَّباتاتِ.
– هَكَذا سَيَشْعُرُ كافَّةُ النَّاسِ بِمَدى الْخَطَرٍ الْمُحْدِقِ بِهِمْ، وَبِالْبيئَةِ عُمومًا، وَبِتَظافُرِ جُهودِهِمْ وَجُهودِ السُّلُطاتِ، سَنَقضي عَلى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الْسِّلْبِيَّةِ.
بَيْنَما كانَ فُؤادٌ وَرَيانُ يُفَكِّرانِ بِحَماسٍ مُنْقَطِعِ النَّظيرِ في الْحُلولِ النَّاجِعَةِ لِإِنْقاذِ حَياةِ صَديقِهِما مِنَ الْفَناءِ، ظَّلَّ هُوَ مُطْرِقًا يُصيخُ السَّمْعَ إِلَيْهِما في صَمْتٍ، لَكِنْ بِتَأَثُّرٍ عَميقٍ جِدًّا، لَمْ يَسْتَطِعْ إِخْفاءَهُ، فَقَدْ لاحَظاهُ، يَتَرَجْرَجُ حينًا وَيَهْدَأُ حينًا آخَرَ، وَفَجْأَةً قاطَعَهُما بِلُطْفٍ قائِلًا:
- أَوَدُّ أَنْ أَعْرِفَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ أَتَقاسَمَ الْعَيْشَ مَعَ الْإِنْسانِ، دونَ أَنْ يُسيءَ إِلَيَّ؟
أَجابهُ رَيانُ: فيما يَتَعَلَّقُ بِالْمَصانِعِ؛ سَتَتِمُّ مُعالَجَةُ مِياهِها في مَحَطّاتِ مُعالَجَةِ الْمِياهِ؛ وذلك لِلتَّخَلُّصِ مِنْ كِمِّيَّةِ النِّفاياتِ وسُمومِها عَبْرَ ثَلاثِ مَراحِلَ:
* الْمَرْحَلَةُ الْأولَى؛ يَتِمُّ فيها إِزالَةُ الْمَوادِّ الصَّلْبَةِ، وَاْلمَوادِّ غَيْرِ الْعُضْوِيَّةِ، بِاسْتِخْدامِ أجْهِزَةِ تَرْشيحٍ خاصَّةٍ تُنَقّي الْمِياهَ مِنَ الشَّوائِبِ السّائِلَةِ وَالْغازِيَةِ الضّارّةِ.
* الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ؛ تَتَضَمَّنُ تَقْليلَ الْمَوادِّ الْعَضْوِيَّةِ، بِاسْتِعْمالِ مُرشّحات – أَجْهِزَةٍ- بْيُولوجِيَّةٍ تُحَلِّلُ النِّفاياتِ الْعُضْوِيَّةِ بِطَريقَةٍ طَبيعِيَّةٍ.
* الْمَرْحَلَةُ الثّالِثَةُ؛ يُزالُ خِلالَها مُعْظَمُ ما تَرَسَّبَ في الْمِياهِ مِنْ مَوادَّ عُضْوِيَّةٍ، بِإِضافَةِ بَعْضِ الْمَوادِّ الْكيمْيائِيَّةِ. هَذِهِ مَعْلوماتٍ قَرَأْتُها في إِحْدى الْمَجَلّاتِ الْعِلْمِيَّةِ.
اِفْتَرَّ ثَغْرُ النَّهْرِ عَنِ ابْتِسامَةٍ فَرَحٍ شَفّافَةٍ، شاكِرًا رَيانَ عَنْ فِكْرَتِهِ الطيِّبَةِ، وَتَساءَلَ: كَيْفَ السَّبيلُ إِلى كَبْحِ جِماحِ عادِمِ قَنَواتِ الصَّرْفِ الصِّحِّيّ الْمَنْزِلِيَّةِ؟
اِطْمَئِنْ يا صَديقي؛ قالَ فُؤادٌ: مُمْكِنٌ جِدًّا مُعالَجَةُ الْمِياهِ الْعادِمَةِ، بِتَصْريفِها نَحْوَ خَزّاناتٍ خاصَّةٍ، حَيْثُ تُفْصَلُ الْمَوادُّ الصَّلْبَةُ عَنِ السّائِلَةِ وَ تَسْتَقِرُّ الْجُزْئِيّاتُ الثَّقيلَةُ في الْأَسْفَلِ، وَتَطْفو الْجُزْئِيّاتُ الْأَخَفُّ مُشَكِّلَةً طَبَقَةً مَنَ الرَّغْوَةِ أَعْلى الْخَزّانِ يَسْهْلُ كَشْطُها، وَبَعْدَ عَزْلِ الْمَوادِّ الْعُضْوِيَّةِ الْمُتَرَسِّبَةِ عَنِ الْمَوادِّ العالِقَةِ كالْبلاستيكْ، وَالْقُماشِ، والزُّجاجِ، والْمَعادِنِ، يُمْكِنُ اسْتِعْمالُها كَأَسْمِدَةٍ فِلاحِيّةٍ.
صَفا وَجْهُ النَّهْرِ وَزالَ غَبَشُهُ، فَلَمْ يَعُدْ يُسْمَعْ لَهُ أَنينٌ، وَطَفِقَ يَجْري وَهُوَ يَعْزِفُ أَعْذَبَ الْأَلْحانِ، طَرِبَ لَها الطِّفْلانِ، وَالْعَصافيرُ، وَالْأسْماكُ، وَالسَّلاحِفُ، وَالْحَلَزينُ، والْقَنادِسُ، وَالضَّفادِعُ، والطَّحالِبُ، وَالْأَشْجارُ وَالْأَزْهارُ، كَما طَرِبَ لَها الْفَلاَّحُونَ وَالصُّنّاعُ وَسُكّانُ الْبَوادي والْحَضَرِ، على مَدى تَدَفُّقِهِ وَجَرَيانِهِ.
أحمد بلقاسم