فجأة تعلن صحيفة «تركيا غازيتسي» المقربة من حزب الحركة القومية، الشريك في الائتلاف مع حزب العدالة والتنمية، يوم السبت الماضي، عن لقاء مرتقب في بغداد بين رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ورئيس جهاز المخابرات التركية حقان فيدان، وتزين الخبر بتعليق للجنرال إسماعيل حقي بيكين رئيس المخابرات العسكرية التركي السابق لإضفاء مصداقية أكثر عليه، ولتبادر دمشق مباشرة إلى نفي هذا الخبر جملة وتفصيلاً عبر إحدى القنوات الفضائية الصديقة، لكن الأمر لا يتوقف هنا، إذ يعود وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في حديث لقناة «إن تي في» التركية لتكرار هذا الكلام بصيغة أخرى، ويحاول تبرير الاحتلال التركي لأراضٍ سورية تحت عنوان «خطر الإرهاب» ويمنح نفسه الحق في الاحتلال لأن له حدوداً مشتركة مع سورية، على حين المحتل الأميركي لا حدود له مع سورية، وموجود من أجل النفط، ولم يُدعَ من سورية، وكأن نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تلقى دعوة رسمية من الحكومة السورية! غريب عجيب مثل هذا الطرح الشاذ، على الرغم من محاولة جاويش أوغلو القول إن تركيا تدعم وحدة أراضي سورية، ولكن دون أن يفسر لنا جاويش أوغلو، ذلك بموجب القانون الدولي، وكم التزمت تركيا بتعهداتها، وتوقيع رئيس نظامها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكم يكذب حزب العدالة والتنمية على رأيه العام والرأي العالمي.
جاويش أوغلو، أعاد تأكيد وجود اتصالات على مستوى الخدمات الخاصة والاستخبارات، معتبراً ذلك شيئاً طبيعياً، لكنه اعتبر أن لا لقاءات سياسية مع دمشق، ومثل هذه اللقاءات غير ممكنة مع نظام معزول على حد زعمه!
وزارة الخارجية السورية نفت نفياً قاطعاً وجود أي نوع من التواصل أو المفاوضات مع تركيا، وخاصة في مجال مكافحة الإرهاب، واعتبرت أن النظام التركي هو الداعم الرئيسي للإرهاب، وحول تركيا خزاناً للتطرف والإرهاب، وهذا ما يشكل تهديداً للسلم والاستقرار في المنطقة والعالم، ويخالف قرارات الشرعية الدولية حول مكافحة الإرهاب.
السؤال المطروح الآن: لماذا هذا الإصرار من نظام أردوغان على الحديث عن اتصالات أمنية مع دمشق، والترويج لأكاذيب على لسان وزير خارجية هذا النظام، في الوقت الذي تنفي دمشق بشدة مثل ذلك، وهل يعتقد جاويش أوغلو أن مثل هذه التصريحات سوف تذر الرماد في العيون عن الدور القذر الذي لعبه ومازال يلعبه نظام أردوغان في دعم الإرهاب، وتدمير سورية، والتآمر على وحدتها، وتشريد شعبها، وسرقة مقدراتها، أوليس الرئيس الأميركي جو بايدن هو الذي اتهم علناً نظام أردوغان بنقل الإرهابيين إلى سورية، ودعمهم بالمال والسلاح؟ إضافة لآلاف الوثائق والأدلة على التورط في الإرهاب ودعمه، واستمرار احتضانه، حتى تحولت إدلب إلى خزان بشري للإرهاب العالمي تديره المخابرات التركية، وتصدر منه المرتزقة لكل أنحاء العالم لضرب الأمن والاستقرار في أكثر من منطقة في العالم.
لم تخفِ دمشق يوماً عن رأيها العام أي اتصالات مع أي طرف، فهي التي أعلنت مطلع عام 2020 عن اللقاء الثلاثي الأمني في موسكو، وبثت وكالة الأنباء السورية «سانا» آنذاك من أن الوفد السوري طالب تركيا بالوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية سوتشي، الموقعة بين بوتين وأردوغان في أيلول 2018 بشأن إدلب، وفتح الطرق الدولية.
لقد أكد أكثر من مسؤول سوري حصول لقاءات أمنية سابقاً مع الأتراك، لكن هذه اللقاءات لم تسفر عن أي شيء، لأن الجانب التركي يكذب ويتنصل من تعهداته، واتفاقياته، معتقداً أن الزمن والوقت في مصلحته، وأن استمرار احتلاله أراضٍي سورية سيتحول لأمر واقع، وهو وهم جديد، يضيفه إلى مسلسل الأوهام الذي عاشه، ويعيشه نظام أردوغان، الذي كان يتوهم الصلاة في الجامع الأموي، وإذ به الآن يسعى لحل مشاكله التي خلقها بنفسه بسبب العقل الأيديولوجي الأعمى، وعقلية السلطان التي يعيشها معتقداً أن التاريخ يعيد نفسه، الأمر الذي يعبر عنه كبار الكتاب الموالين له بهدف شحذ الشعور القومي لدى الأتراك تارة، واستعمال الدين تارة أخرى من دون نتيجة تحسن من تراجع شعبيته المتهاوية.
لقد أظهرت مختلف مؤسسات ومراكز استطلاع الرأي العام، تراجع مستويات التأييد لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ووصولها لأدنى مستوياتها منذ العام 2001، وبهذا المستوى المتدني من الشعبية يستحيل عليه الاستمرار في حكم تركيا إذا أجريت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال العام 2023، إذ أظهرت هذه الاستطلاعات أن شعبية الحزب الحاكم هي بحدود 33 بالمئة من مجموع الناخبين، على حين شعبية شريكه حزب الحركة القومية تقل عن 10 بالمئة وهي العتبة المطلوبة لدخول البرلمان، وبالتالي فإن كل أصوات الحزبين ستكون أقل من 50 بالمئة للفوز بمنصب رئيس الجمهورية مقابل ذلك فإن مجموع أصوات أحزاب المعارضة قد يصل إلى نسبة 55 بالمئة إذا اجتمعت معاً، واتفقت على مرشح رئاسي واحد.
تراجع شعبية حزب أردوغان دفعه للعمل على تخفيض نسبة العتبة الانتخابية البالغة 10 بالمئة للوصول بها إلى 7 بالمئة، على حين أن شريكه حزب الحركة القومية يريد الوصول إلى 5 بالمئة، وحتى 3 بالمئة، ما سيساعد العديد من الأحزاب الصغيرة القريبة من الحزب الحاكم من دخول البرلمان عام 2023.
تراجع شعبية الحزب الحاكم يعزوه المراقبون للشأن التركي إلى ملف المهاجرين والسوريين منهم، والأفغان مؤخراً، وسوء الأداء أثناء حرائق الغابات، لكن خبراء آخرين يرون أن الأمر لا يرتبط بأحداث طارئة بل بما يسمونه المحصلة الطبيعية، والموضوعية لسياسات حزب أردوغان، طوال عشرين عاماً والتي لم تعد محتملة بالنسبة للقواعد الاجتماعية للحزب، وللأتراك عموماً، ومنها محصلة سياساته الخارجية الفاشلة وتراجع الاقتصاد بشكل كبير وتراجع قيمة العملة الوطنية الفساد واهتراء المؤسسات وانتشار العلاقات الشخصية… الخ، وبالتالي فإن الأزمات التي خلقتها وتسببت بها سياسات الحزب الحاكم خلقت عزوفاً عاماً من الأتراك، وخاصة لدى جيل الشباب، الذي يرى أن حزب أردوغان لم يعد ملبياً لتطلعاتهم وطموحاتهم.
المزاج العام في تركيا يتغير بشكل سريع، ويبدو أن عنجهية أردوغان، واعتقاده أنه مازال نجماً يسحر الناس بخطاباته قد تودي بالسفينة إلى الغرق، على الرغم من أن أردوغان تلقى صفعات يفترض به أنه قد تعلم منها، إذ إنه على الرغم من تدخله المباشر مُني بهزيمتين انتخابيتين في 7 حزيران 2015 في الانتخابات العامة، ما اضطره لإعادتها لاحقاً، وفي الانتخابات البلدية في 31 آذار 2019، عبر هزيمتي اسطنبول وأنقرة.
تخويف الأتراك لم يعد يجدي نفعاً على ما يبدو، لأن الأتراك يسألون: إذا كان الوضع وردياً كما يصفه أردوغان، فلماذا نحن على هذا الحال؟ وخاصة أن تركيا لا تعيش حرباً وليست محاصرة، ولا عقوبات عليها، والأسواق مفتوحة أمامها، إذاً لماذا هذا التراجع، وسوء الأوضاع التي يصفها مصدر صديق لي من داخل تركيا بأنها سيئة أكثر مما يتصوره أي إنسان، فالحزب الحاكم باع كل شيء في تركيا، ولم يعد الأتراك يملكون شيئاً. كل شيء للخصخصة حتى الغابات ستباع قريباً حسب المصدر الذي تحدث إلينا شريطة عدم ذكر اسمه.
يرى المصدر الذي تحدثنا إليه أن أردوغان قد يلجأ إلى أي شيء لكسب الانتخابات، بما في ذلك عدم إجرائها، لأنها طوق النجاة له بعد انكشاف الوجه الحقيقي له وتراجع شعبية الحزب الحاكم، ذلك أن الاقتصاد الذي شكل رافعة له خلال السنوات الماضية بدأ يتراجع بشكل كبير مضافاً له ملفات الهجرة وسوء علاقات تركيا الخارجية.
إذا أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار نفهم لماذا تسارع أنقرة لحل مشاكلها مع كل الدول من مصر والإمارات والسعودية واليونان والعراق…إلخ، التي حولتها إلى دولة معزولة في مرحلة ما، وليس سورية كما قال جاويش أوغلو، فسورية تخوض حرباً وجودية، وتدافع عن نفسها، ووحدة ترابها وشعبها، والتنظير التركي على الآخرين انتهى زمانه، فلا تركيا نموذج للاحتذاء به، ولا اقتصادها نموذج آخر، وعليها الانشغال بمشاكلها الداخلية قبل إعطاء المواعظ والدروس للآخرين، ولقد كتبنا عشرات المرات أن أبواب دمشق مفتوحة لمن يريد دخولها باحترام وأدب، وبمصالح مشتركة ومغلقة أمام المحتلين، والمتعالين، والمنافقين.
كتب إبراهيم كاراغول أحد أقرب الصحافيين لأردوغان مقالاً في صحيفة «يني شفق» التركية الناطقة بلسان الحزب الحاكم، منتقداً أولئك الذين يعتبرون أن بدء الاضطهاد كان عام 1453 عندما تم استيلاء العثمانيين على إسطنبول، معتبراً أن مثل هذا الطرح لن يوقف صعود تركيا، وبغض النظر عن النقاش التاريخي في هذا الأمر، فإن أهم ما قاله كاراغول إن «بيزنطة لن تعود للحياة مرة أخرى»، وإن «إسطنبول ستبقى للأبد إسطنبول، ونحن نقول للسيد كاراغول أيضاً أن «السلطنة العثمانية لن تعود للحياة مرة أخرى، وإن شام شريف ستبقى شريفة للأبد.
د. بسام أبو عبد الله