لن تكون سوتشي اليوم، عندما يحط رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان رحاله فيها، كما شاهدها في أيلول 2018، ولن تكون موسكو في أعين أردوغان كما كانت في آذار 2020، فالرجل الذي تعهد حينما اجتمع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن يكون الضامن للميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية الموجودة في إدلب، لتنفيذ مخرجات ذاك الاجتماع، سقط في كل الاختبارات والامتحانات، فظلت تلك المخرجات حبراً على ورق، بل على العكس زادت هيمنة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها «جبهة النصرة»، على جل مناطق إدلب، وذابت الميليشيات المسلحة، التي يصفها النظام التركي بالمعتدلة في كيان «النصرة»، وظل طريق M4 بانتظار تعهدات رئيس النظام التركي أن يوضع في الخدمة مع مساحة أمان على طول ضفتيه.
وإن كانت عناوين الملفات الرئيسة التي سيناقشها الرئيس بوتين ورئيس النظام التركي واضحة وصريحة، مثل الوضع في سورية وإدلب تحديداً وليبيا وإقليم ناغورني قره باغ والوضع الاقتصادي بين البلدين، إلا أن التوقعات حول تفاصيل نقاش تلك العناوين وبالتحديد ملف الوضع السوري، يبقى خفياً حتى الآن وإن كثرت التوقعات والتحليلات في المقاربات التي يمكن أن يتبعها الجانب الروسي مع النظام التركي حيال ذلك، حيث استبقت روسيا وقبل شهر من الزيارة المقررة اليوم، بغارات يومية على معاقل إرهابيي أردوغان في «خفض التصعيد»، وهي رسالة عمل الجانب الروسي على إيصالها إلى التركي لإفهامه بالنار ما لم يفهمه بالدبلوماسية، بأن بقاء التنظيمات الإرهابية في سورية لن يكون إلى ما لا نهاية، وأن القضاء عليها أمر حتمي لابد منه، وأن تهرب النظام التركي من التزاماته وتعهداته للجانب الروسي، ليس السبيل لحل الأزمة في سورية، وهو ما أكده المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف حين قال: إن الرئيس بوتين وأردوغان أبديا إرادة سياسية وتمكنا من التوصل إلى اتفاق بشأن إدلب، لكن لا تزال الأنشطة الإرهابية مستمرة في تلك الأراضي وأنه أمر غير مقبول وخطير، هو أمر يعرقل عملية التسوية في سورية.
أردوغان الذي يجيد الاستثمار في المتناقضات بين الدول، ويعرف كيف يلعب على حبال المراوغة والوقت، سيعرف حتماً كيف يخرج من «سوتشي» بشيء من المكاسب، أو أقله الخروج بأقل الخسائر، خاصة بعد خروجه خالي الوفاض، وبخيبة آمال كبرى في الحصول على ما كان يمني النفس به من محادثته الأخيرة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، حيث قال للصحفيين، بعد اجتماع الأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي: «في المناقشات مع بايدن التي كنت أتوقعها، لم تكن هناك النتيجة المرجوة»، الأمر الذي يشكل انتزاعاً أميركياً للدعم و «الدرع» اللذين كان يتدخل ويسمسر بهما رئيس النظام التركي في أزمات المنطقة، خيبة أمل قد يتلقفها الروسي ورقة ضغط على أردوغان، يعمل من خلالها على تحديد الأمور بشكل أوضح، وتسمية الأمور بمسمياتها وبشكل نهائي، تنزع من يد أردوغان ملكة التأويل والتحليل والتفسير، و«مشروعية» احتلاله أراضي سورية تحت ذريعة تنفيذ اتفاق أضنة ومحاربة الإرهاب.
من المؤكد أن اجتماع سوتشي اليوم ليس حالة منفردة أو حدثاً استثنائياً، فهو يأتي ضمن جملة من المتغيرات تشهدها المنطقة عموماً وسورية خصوصاً، الأمر الذي يجعله أمراً ضرورياً للتوصل إلى حلول تتناسب ومجمل الحلول والانفراجات التي تشهدها سورية على جبهات عدة، وكي لا يبقى النظام التركي يغرد خارج السرب ويسبح في بحر أوهامه إزاء مخططاته في المناطق التي يحتلها في شمال شرق سورية وغربها، حيث سبقه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تغيير الكثير من القناعات والمفاهيم والخطط تجاه سورية، سمحت في مجملها بكسر ما يسمى «قانون قيصر» عبر تزويد لبنان بالغاز المصري عبر خط الأردن- سورية، الأمر الذي تلقفته الدول العربية وقرأته بأنه ضوء أخضر للعودة إلى دمشق، وهو ما تُرجم في لقاءات وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد بالعديد من مسؤولي الدول العربية في نيويورك.
من الواضح أن ثمة متغيرات كثيرة، وربما مفاجآت بانتظار أردوغان في «سوتشي»، فسورية 2021 ليست سورية أثناء الأزمة، فمن عمل على إغلاق الأبواب وهدم الجسور على الطرق مع دمشق، هو ذاته من يعمل حالياً على إعادة فتحها وترميم ما هدمه بيده، وفي نظرة سريعة على الأجندة الأميركية الحالية إزاء سورية، والحراك الذي تشهده الأروقة السياسية والاقتصادية والعسكرية الأردنية السورية، وتصريحات البعض ممن شيطن الدولة السورية بكل مستوياتها، نجد أن الأمور دخلت في الربع ساعة الأخير من عمر الأزمة في سورية، وأن الوقت ضاق على البعض كثيراً للحاق بقطار العودة إلى دمشق، لتعنته وقصر نظره ورهانه المستمر على المحتل، وهو حال ما يسمى رئيس «الائتلاف السوري» المعارض المدعو سالم المسلط، العميل للنظام التركي، وتقديمه اقتراحاً للإدارة الأميركية بتشكيل تحالف دولي جاد ينطلق من مشروعية التحرك تحت الفصل السابع وتكون مهمته الأساسية «اقتلاع» السلطات السورية على حد تعبيره، فيما أمل البعض بحجز تذكرة في ذاك القطار والذي مازال قائماً، وهو ما أكده المقداد بتحذيره القلة من أصحاب الأجندات الانفصالية في شمال شرق سورية من مواصلة أوهامهم، وعليهم أن يصحوا من غفلتهم ويتعلموا من الدروس الماثلة أمامهم وعلى مقربة منهم من أن الرهان على القوى الخارجية والاستقواء بالمحتل على أبناء شعبهم هو رهان فاشل ولا يجلب إلا الذل والهوان لأصحابه والأذى والضرر لبلادهم.
الوطن السورية