على جوانب الأزقة الضيقة تتناثر البيوت الدمشقية العريقة ذات الجدران العالية مُسندةً أكتافها إلى بعضها البعض ومتلاصقة نتيجة ضيق المساحة،، بيوت مبنية من الطين والحجارة بهندسة بسيطة وتكوين دقيق وتصميم فريد ناتج عن قرون من فن العمارة الإسلامية يعود تاريخها على وجه الخصوص إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر ويقال إن أول بيت عربي شُيد بدمشق كان للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. .. وأنت تسير في أزقة وحارات دمشق القديمة تصادفك أبواب عشرات المنازل التي مازال أغلبية سكانها بداخلها تبدو عادية ومتشابهة من الخارج مراعاة لشعور الفقراء وتعبيرا عن قيم المحبة والتكاتف بين الناس، لكن الاختلاف كان يظهر داخل هذه البيوت من حيث الفخامة والمساحة،
من هذا الجمال الخارجي الذي تراه عيناك يعتريك الفضول تُرى ماذا يوجد في الداخل؟ بمجرد أن يُفتح لك الباب الخارجي وتعبر الممر المسمى “الدهليز” تشعر أنك انتقلت من عالم إلى آخر من الباب العادي إلى داخلٍ يشكل بيتاً بديعا تتنافس عناصر الجمال فيه لتخبرك حكايا الحياة بشكلها الآخر شكلها القديم ربما لكنه الأجمل لأنك ستدخل إلى قلب القصص الجميلة والحكايا القديمةإلى بيوت دمشق القديمة التي تأسر كل من زارها أو طرق بابها بزخارفها المتنوعة التي تعطيها مهابة وعظمة وكلٌ منا قد شاهدها إما واقعا أو عبر لوحة فنية أو عبر مسلسل من مسلسلات الشام القديمة. كثيرة هي التفاصيل التي تأخذك حين دخولك هذه البيوت الموغلة في القدم حيث تدخل من مدخل ضيق يتسع لشخص يوصلك إلى باحة الدار وعادة تكون مبلطة بحجر أسود بازلتي أو رخام ملون ومرتب على الأرض بطريقة فنية تُعرف بالمشقّف ليكتمل جمالها وتبدو وكأنها روضة غنّاء لوجود شتى أنواع الأشجار فيها كالنارنج الذي يعطر الأنفاس من أزهاره والمشمس والليمون والياسمين الدمشقي الشهير الذي له حصة كبيرة في ساحات البيت الدمشقي إلى جانب الزنبق والفل ومن هنا شاعر دمشق نزار قباني الذي أثر فيه وبشعره البيت الدمشقي تساءل ذات مرة؟ هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر،، بيتنا كان تلك القارورة، قارورة العطر تلك إنما يفوح عطرها من وجود تلك النباتات والازهار التي ارتبط اسمها مع البيت الدمشقي وكلها تتوزع حول بركة دائرية تسمى البحيرة وخرير مياهها ينساب برفق وعليها تتوضع بعض أحواض الزهور والزينة وحول هذا الجمال كله تتوزع الغرف المصصمة بجدران عريضة لمنع البرد والحر أما عن تقسيماته المعهودة فهي قسم الحرملك المخصص للنساء كي يجلسن فيه دون مخالطة الرجال وقسم السلملك لاستقبال الضيوف من الرجال حيث صُمم بما يمتع النظر إلى الباحة الرئيسية للبيت الذي شكل درة دمشقية عريقة وكلا القسمين يحتوي على فناء داخلي تحيط به الغرف بالإضافة إلى قسم الخدملك. ولما كانت مساحات هذه البيوت تختلف عن بعضها من حيث المساحة وتعدد مرافقها ودرجة تزيينها ونقشها فيوجد في البيوت الكبيرة المربع وهو غرفة مطلة على أرض الديار وهناك غرف عالية تسمى القاعات وهي تحوي اثاثا فاخرا من الاربيسك ومطعما بالصدف جدرانها مزخرفة بأناقة وروعة لاتضاهى وهي مفتوحة على إيوان مرتفع وهو غرفة من ثلاثة جدران فقط تملؤه زخارف فنية مدهشة أما عن سقفه فهو مزخرف بزخارف خشبية تسمى العجمي مفتوح على الباحة الكبيرة، وانت تكمل جولتك في أرض الديار ترى درجا داخليا في طرفها يصعد بك إلى الطابق الثاني المخصص لغرف النوم بنوافذ تفتح على صحن الدار لدخول الشمس ومعظم الأثاث فيه ركيزته المجالس العربية و الطاولات المرصعة بالصدف تخبرك عن براعة الدمشقيين في إبراز الزخارف النباتية والخطوط الهندسية البديعة التي ظهرت على الجدران المحيطة بصحن الدار وجدران الأسقف وغيرها وفي التصميم المعماري للبيت الدمشقي ككل الذي استطاع ان يحقق الأمن والراحة والخصوصية لساكنيه بمكوناته المعمارية ومايتصل بهما من جمال وابداع وأن يكسر هذا الملل من خلال القبة السماوية المتغيرة خلال ساعات النهار وخلال الفصول المختلفة وتلاعب الظلال على مدى النهاريحق لهذه البيوت العريقة أن تعتبر شاهدا حيا على إرث حضاري خاص وان تبقى محط اهتمام وانبهار لكل عشاق دمشق منذ الأزل وآية في الجمال والروعة وأحد مآثر العمارة العربية بمواصفاته الفريدة أما عن أهلها الساكنين فيها ففي كل يوم يكتشفون في كل زاوية جمالاً جديدا في منازلهم فكيف بنا نحن المارّون فقط ضمن شوارعها.
اعداد: مجد حيدر