يصلح الكتاب الصادر حديثاً تحت عنوان “إنشاء المباني في التراث العلمي العربي والإسلامي في سورية” لأن يكون مرجعاً علمياً متكاملاً لطلاب الهندسة والعمارة لدراسة أسس وأشكال الأبنية القديمة السورية وللباحثين والمهتمين بالتراث لمعرفة أفضل السبل لصون هذه المباني واستثمارها بصورة لا تؤثر على هويتها وعراقتها.
الكتاب الصادر إلكترونياً عن الهيئة العامة السورية للكتاب للدكتورة وفاء النعسان رغم أنه يركز على الجوانب الإنشائية في هذه الأبنية والتي يعتقد البعض أنها أقل أهمية من العمارة والزخارف إلا أنه يوغل في التوثيق لعشرات الأوابد الموجودة في سورية منذ العصر الحجري وحتى الإسلامي مورداً بالصور أمثلة تجعل الكتاب ذا طابع تاريخي أثري وعلمي عمراني.
وتوضح الدكتورة وفاء في مقدمة الكتاب أن ما حدا بها إلى تأليفه رغبتها بتسليط الضوء على المباني التراثية من الوجهة الإنشائية مع إدخال العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية التي أحاطت بها مبينة أنها جمعت بين مشاهدتها ومعاينتها الشخصية لهذه الأبنية وبين شتات المعلومات المتناثرة في الكتب ضمن إطار هندسي موحد ثم مقارنة النتائج بما هو في الواقع عن طريق المسح الميداني والتوثيق متجاوزة في سبيل ذلك صعوبات عدة أهمها اتساع المجال الجغرافي للبحث وكثرة الأبنية التراثية فيه.
وتبدأ المؤلفة كتابها من تنوع مواد البناء وطرائق الإنشاء في التراث العربي مبينة أن الأنباط والتدمريين استخدموا الحجارة في بناء بيوتهم وأن العرب بلغوا شأواً كبيراً في الهندسة الإنشائية قبل الإسلام وبعده بصورة مبنية على الملاحظة والتجربة والحس السليم سواء في مجال مواد البناء أو طرائق الإنشاء ما يعكس الكفاءة العلمية التي كانت لدى المهندس العربي في مجال بناء البيوت والقصور والحصون والأسوار والقلاع والمساجد والأديرة والسدود والأنفاق.
ولدى انتقال الدكتورة وفاء للحديث عن مواد البناء وطرائق الإنشاء في مبان تراثية في سورية تعرض لأوابد تعود للعصر الحجري كمغاور نحتت في الصخر بقرية البارة شمال حلب ثم انتقال الإنسان السوري لبناء البيوت من اللبن المجفف بالشمس على أساس حجري كما في قرية المريبط مشيرة إلى تطور البناء في العصرين الأموري كما نجده في حضارة ماري والكنعاني مثل حضارة إيبلا حيث شاع استخدام الطين والقرميد المشوي لقلة الحجارة في تلك المناطق.
وتتوقف المؤلفة عند أنماط البناء في أوغاريت والتي تميزت مساكنها بوجود عدة طوابق يغطي طابقها الأخير سقف مستو أو مائل قليلاً وتأثر البناء السوري بالحضارات الوافدة من يوناني وهلنستي وروماني لجهة تخطيط المدن الشطرنجي وطرق التسقيف وبناء الجدران ورفع الأعمدة.
وتقدم الدكتورة وفاء في كتابها بحثاً مستفيضاً دراسة هندسية في مبان تراثية قديمة بمدينة حلب من الجامع الأموي الكبير وجامع العادلية والبيمارستان الأرغوني الكاملي إضافة إلى دراسة مماثلة في مبان تراثية مجددة وهي المطبخ العجمي وحمام يبلغا الناصري “اللبابيدي” وخان الشونة ثم تنتقل للحديث عن مبان تراثية عصرية في حلب منها فندق البارون وثانوية المأمون.
وتقدم المؤلفة في ختام كتابها توصيات تدعو فيها إلى توجيه العناية والمحافظة على المدن العربية القديمة ولا سيما أن الكثير من مبانيها يعاني مشاكل هندسية والمحافظة على الجمل الإنشائية في المباني التراثية وإظهار أصالتها والإبقاء على نوعية مواد البناء المستخدمة وتشجيع السكان القاطنين في هذا المباني ودعمهم لإجراء عمليات الترميم والتخفيف من ضغط الفعاليات الخدمية في الأحياء القديمة الذي جعلها تبدو كأنها خليط غير متجانس أو منسجم مع نسيج عمران هذه المناطق وإنشائها.
يذكر أن الكتاب يقع في 424 صفحة من القطع الكبير أما المؤلفة فهي من مواليد حلب حاصلة على إجازة في الهندسة المدنية وعلى درجة دكتوراه في تاريخ العلوم التطبيقية وعلم الآثار من معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب شاركت في أكثر من 50 مؤتمراً وندوة محلياً وعربياً ودولياً.
سانا