بالمباشر، من يعتقد أن جنوح سفينة «إيفرغرين» العالقة في قناة السويس ناتج عن سوء الأحوال الجوية فهو واهم، ومن يعتقد أننا تحررنا من أطماع الاستعمار الغربي الداعم للعدو الإسرائيلي فهو واهم، ومن يعتقد أن تعطيل الملاحة في قناة السويس هو نتاج اتفاقيات السلام المزعوم وتطبيع العلاقات بين بعض العرب والعدو الإسرائيلي فهو على صواب.
بالعودة إلى مواصفات سفينة «إيفرغرين» فهي من فئة السفن العملاقة المخصصة لنقل الحاويات، تم بناؤها عام 2018، حمولتها الإجمالية 220 ألف طن، طولها يبلغ 400 متر، وعرضها 60 متراً، وسرعتها تصل إلى 98 عقدة نحو 181 كم بالساعة، أي إنها حديثة الصنع، ومن ثم فإنها ذات مواصفات عالية، مزودة بأحدث شاشات الرادار الموصولة بالأقمار الصناعية الكاشفة للأحوال الجوية، ولسرعة واتجاه الرياح وعمق المياه، وهي مصممة وقادرة على التعامل مع أي طارئ مناخي.
أما هوية السفينة، فهي مملوكة لشركة يابانية، وتشغّلها شركة أخرى تايوانية، وترفع علم بنما، ما يعني الدخول في متاهة، إذا ما تعرضت السفينة لحادث يستدعي المتابعة القانونية، كما هو حاصل في قناة السويس.
وإذا ما لاحظنا تقارير وصور الأقمار الصناعية حسب وكالة نوفوستي الروسية، والتي أفادت باتخاذ السفينة مساراً دائرياً غريباً ومشبوهاً، قبل دخولها الممر المخصص لقناة السويس.
بناء على ما تقدم، يتأكد انتفاء فرضية تعرض السفينة لأحوال جوية، أو رياح عاتية أدت إلى الجنوح كما يشاع، الأمر الذي يقودنا إلى حدث متعمّد، وبفعل فاعل مع سَبْق الإصرار والترصّد، لتحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول: اختلاق أزمة نقل كبرى وتوقف الملاحة في قناة السويس تمهيداً لاغتيال دورها الحيوي وهو الأمر الحاصل الآن، واستناداً إلى آخر التقارير الملاحية فإنها تشير إلى أن خط السفن المتوقفة قد وصل إلى الهند.
الهدف الثاني: استعادة مشروع العدو الإسرائيلي بضرورة وجود ممرات مائية إضافية للركون إليها في حال حدوث أي أزمة في قناة السويس (خط إيلات ــ المتوسط) لكونه ممراً جاهزاً وقابلاً للعمل الفوري، وخصوصاً بعد تهافت بعض العرب للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، وعلى خط مواز يقود إلى انتهاز اللحظة المناسبة الناتجة عن تعطيل الملاحة في قناة السويس، لإعادة تسويق البدء بمشروع «قناة بن غوريون» بإدارة وسيطرة مباشرة من العدو الإسرائيلي.
الهدف الثالث: استكمال الحرب غير المرئية التي يخوضها الغرب إلى جانب العدو الإسرائيلي بإطباق الحصار الاقتصادي على دول محور المقاومة سورية ولبنان والعراق، إضافة إلى حرب السفن الدائرة بين إيران والعدو الإسرائيلي في عرض البحر بهدف حرمان إيران من عائدات تصدير مشتقاتها النفطية، ظلت الناقلات الإيرانية تسلك طريقها نحو سورية ولبنان عبر قناة السويس، فالنتيجة المرتقبة من تعطيل الملاحة بقناة السويس هي إحكام الخناق الاقتصادي على كل من سورية ولبنان.
مع تعاظم وتماسك قوى محور المقاومة في المنطقة أيقن العدو الإسرائيلي ومن خلفه أميركا والغرب عبثية الاعتماد على ترسانته العسكرية الضخمة لتحقيق أي نصر عسكري خاطف من شأنه إعادة خلط الأوراق ومنحه فرصة إخضاع دول المنطقة كما حصل في العام 1967.
صحيح أن الغرب وخاصة الشريكين البريطاني والفرنسي قد غادرا الجغرافية العربية عسكرياً، وذلك بعد نجاحهما بتقسيم وتوزيع جغرافية بلادنا العربية من خلال اتفاق تم بين سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي، أي بين المستعمرين أنفسهم، وبمعزل عن إرادة أهل الجغرافية، والقيام بتنصيب وكلاء لهم من العرب ملوكاً وأمراء ومشايخ ورؤساء على بلادنا العربية، شرط التخلي عن فلسطين العربية والحفاظ على مشروع الكيان الصهيوني.
بيد أن المستعمر لم يستسغ فكرة ترك الثروات العربية بتصرف الوكلاء الحصريين للغرب، ليستمر بتنفيذ إستراتيجية جديدة لاستعادة الاستعمار الاقتصادي، بعد السيطرة على الممرات والمرافق المهمة التي تقع ضمن أرض العرب، فالمستعمر لم ينس بعد هزيمة العدوان الثلاثي على قناة السويس العام 1956 بعد مقاومة شرسة شارك بها 200 مليون عربي، الأمر الذي كرّس جمال عبد الناصر قائداً عربياً قومياً ضد قوى الاستعمار.
ما نراه اليوم وأمام أعيننا هو مشهد اغتيال لإرث جمال عبد الناصر في قناة السويس، تمهيداً لإعادة الاستعمار الغربي الإسرائيلي على ممراتنا المائية وعلى ثرواتنا وعلى كل منافذنا الاقتصادية والعلمية، وليس بوساطة الحرب العسكرية، إنما بوساطة الحرب الصامتة غير المرئية.
إن تجفيف دولنا من مقدراتنا وثرواتنا، وضرب عملتنا الوطنية وجعل الشعب العربي يرزح تحت وطأة الفقر والعوز وبحال من التخلف والجهل، جلّها أهداف متقدمة، يجري تنفيذها بالتعاون والشراكة بين الوكلاء الحصريين للمستعمر والعدو الإسرائيلي.
بعد اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، وُعِد شعب مصر بالعسل واللبن والبحبوحة، وبعد أربعين عاماً على اتفاق السلام بين جمهورية مصر العربية والعدو الإسرائيلي، ترى شعبها لم يزل محروماً من العسل واللبن ومن التقدم والتطور، أما اقتصاد وثروات وممرات مصر المائية فإنها لم تزل ضمن دائرة الأطماع والسيطرة الغربية الإسرائيلية.
إن انفجار مرفأ بيروت الكارثي، واغتيال دوره كأهم مرفأ للترانزيت على شاطئ المتوسط، ومن ثم تعطيل الملاحة في قناة السويس، هو اغتيال اقتصادي بفعل فاعل، يجري تنفيذه عن سابق تصور وتصميم، ولأي مرفق عربي حيوي بقصد توفير عوامل تعطيل أو إلغاء دور ممرات وموانئ الترانزيت في المنطقة، وحرمانها من تأمين عائدات حركة التجارة الدولية، وتحويلها لمصلحة موانئ العدو الإسرائيلي وبشكل حاسم.
إنها حكاية استبدال الاستعمار الجغرافي باستعمار سياسي بعد تنفيذ الاغتيال الاقتصادي لبلادنا العربية.
الوطن السورية