بتر التطرف في الثقافة والمجتمع، بقلم الكاتب الدكتور أنور ساطع أصفري.

بتر التطرف في الثقافة والمجتمع، بقلم الكاتب الدكتور أنور ساطع أصفري.
بتر التطرف في الثقافة والمجتمع، بقلم الكاتب الدكتور أنور ساطع أصفري.

علينا أن ندرك بدايةً أن للتطرف أسباب وتداعيات ، وأن بداية المشوار

الحديث بدأ من تنظيم القاعدة كنموذج ظلامي للتطرف الديني .

فالتطرف هو ثقافة ، وموجود منذ القرن الأول الميلادي ، ومن ثم في العصر

الإسلامي ، ومن ثم على هامش الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة ، حيث استغلها متطرفون وهدموا العديد من الكنائس ومحتوياتها ، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ . والعقلية الدينية المتطرفة في المجتمع العربي هي سبب تخلّف هذه المنطقة من خلال الإقصاء والتشدد في الأمور. ومن خلال الإكراه في الدين والعنف في المواقف.

فلو أخذنا كلمة ” الأمن ” تراها مفردة واحدة ، ولكن مفهومها شامل وتحتاجه

كل الدول والشعوب وفي كل مجالات الحياة ، فهناك بكل تأكيد أمن عسكري ،

وآخر غذائي ، وأمن اقتصادي ، وأمن فكري ، وأشياء أخرى يحتاجها الإنسان

لحماية نفسه ، ولعل أهمها هو الأمن الثقافي الذي يمثّل أحد أهم احتياجات

الإنسان التي تضمن له نوعاً من الاستقرار والسلم الأهلي ، وشروط

استمرارية الحياة في مجالٍ آمن ، ومن خلال الارتكاز إلى فكرٍ معتدل ينهض

بالأمة ويحصّن الوطن ، ويصون المجتمع من خلال سياسة الحكمة والتسامح

والتعايش .

لذلك نرى أن أهم أسباب التطرف هو سوء التعامل السياسي بين السلطة والشعب بكل مكوناته وأطيافه ، وغياب العدالة ، وغياب العدل ، إضافة إلى قمع الحريات وتهميش بعض مكونات المجتمع ، ومضاعفة نسبة التخلف والجهل ، وتحقيق زيادة في نسبة الفقر بدلاً من التقدم والرفاهية .

ورغم كل ما واجهته المنطقة من التطرف والإرهاب خلال السنوات السابقة إلاّ أن الحكومات والمنظمات ولغاية الآن لم يضعوا خطةً أو برنامجاً جاداً

لمواجهة التطرف بكل أشكاله، ولو على مستوى مشاريع قوانين أو آليات

لمكافحة التطرف .

وعلينا أن نعي بأن التطرف الديني والمذهبي صفةٌ طاغية في التاريخ العربي الإسلامي ، ويظلّ أساس التطرف الديني أصل في تراثنا الفقهي ، وكتب تاريخنا العتيدة ، حينما ننصّب أنفسنا أوصياء بإسم الله على الناس ،

فإمّا أن يكونوا معنا أو يُقتلوا ، لأننا الفرقة الناجية من النار ، وسوانا كفّار قتلهم واجب ” كما يقولون ” .

لذلك أرى ومن باب الحرص على الثقافة والمجتمع والدولة والأمة ، أنه لا بد

من نقد وتنقية كتبنا وإعادة مراجعتها وبتر سياسة الإقصاء والكراهية ومبدأ

الفرقة الناجية دون سواها . كما لا بد من رفع نظرة التقديس لّلآراء

والنصوص والأفكار واستبدالها بسياسة المنطق والعقل ، وبالتالي إطلاق حرية الفكر والعقيدة والتعبير عن الرأي .

ومن جهة أخرى لا بد من تحرير الناس من تقديس البشر وعبادة الأشخاص ، وتأهيلهم كي يُحاكِموا الأقوال والأفعال بدل سياسة الجري خلف الأشخاص

كقطيعٍ من الغنم .

فما نحتاجه هو أصوات معتدلة تدافع عن الآخر ، وحكومةٌ تحمي الآخر ، وقصرٌ ملكي أو جمهوري ينطلق منه صوت الشعب ، حينها سيُعاد بناء الثقة ، ويرتفع خطر التطرف والإرهاب ، ويتم ترميم سلمنا الاجتماعي والثقافي والسياسي بشكلٍ تدريجي وسلس .

وأنا هنا لا أقول بأن التطرف سينتهي أو يتلاشى ، لكنه سيخفّ ويهدأ ويضعف ، وقد يعود فيما إذا وجد أن هناك ظروف ملائمة لانتشاره من جديد .

ومن هنا نؤكّد على ضرورة حاجتنا إلى تأسيس مراكز لتشخيص الفكر المتطرف وعلاجه ، ورعاية وتأهيل المتأثرين به ، بهدف التأثير في تركيبتهم الفكرية المتطرفة وبترها . من خلال البحث الجاد في موضوع الحوار والوسطية والاعتدال لبلورة المواجهة بطريقةٍ تتضمن البُعد الفكري والإستراتيجي .

ولعل من أهم الأمور التي تساعدنا في محاربة التطرف والإرهاب هي ترشيد

ومراجعة وتوجيه الخطاب الديني ، ورفع مستوى تأهيل الأئمة والخطباء بهدف مواجهة التطرف الفكري ومنابته.

ومن الأهمية بمكان مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي التي هي نافذة حيّة

لمحاربة ومكافحة التطرف . وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن المجتمعات

الشرقية من السهل اختراقها عاطفياً ، لأنها مجتمعات تربّت على كمٍ كبير

من العاطفة على حساب التوجيه النصي والفكري والعقلي ، فالبنية الفكرية

الشرقية تميل إلى البساطة والتديّن ، وهكذا تركيبة تكون مهيّأة

للاستغلال والاختراق ، لذلك لا بد من رفع مستوى الوعي معهم وعندهم ، من خلال الأمن الثقافي والفكري كمنظومة متكاملة ، فالتعاون والتنسيق مع

الآخر مهم مع بقاء سمة التعددية والتنوّع كبصمةٍ وطنية ، مع ثوابت حفظ

الحقوق وتحريم وتجريم العنف والاعتداء على الآخر ، والمحافظة على التعايش والمواطنة والتآلف وعلى الهوية الوطنية .

لأننا لو قاربنا الأمور أو الواقع لثبت لدينا أن من أهم أسباب العنف

والتطرف والإرهاب هو أن القمع في دولةٍ ما ألغى السياسة فيها وفي مجتمعها ، وتحوّلت السلطة من خلال القمع إلى مجالٍ للتوحّش السياسي ضد الفرد والجماعة ، ومن خلال هكذا واقع خرجت فئات شبابية بشكلٍ خاص على مجال التوحش السياسي الرسمي من خلال لجوئها إلى تنظيماتٍ متطرفةٍ دينية ، وراحت تناهض الأنظمة الاستبدادية من خلال العنف والتطرف الفكري والإرهاب الديني والثقافة التكفيرية ، بمعنى أنها تكفّر الآخر بغض النظر إن كان مسلماً أو من طائفةٍ أخرى وتنبذه وتقصيه وتقتله .

ومن خلال هذا السياق نقول أن ثقافة الفكر التكفيري هي من نتاج التعليم

الديني المتشدد أو من القراءات السطحية للنصوص ، ومن هنا تكمن العلّة

الأكثر عمقاً وراء طغيان الإرهاب التكفيري .

كما أن هناك أسباب اقتصادية لانتشار التطرف ، مثل الفقر ، والتهميش

والبطالة ، والمرض والجهل ، وسوى ذلك من أمور كانت مناخاً مليئاً باليأس

والإحباط ، والذي دفع ببعض الشباب أو بكتل شبابية إلى الالتحاق بتشكيلات

الإسلام السياسي المتطرف ، لمواجهة السلطة والتحرر من اليأس والإحباط

والفشل .

فالمتطرف يستخدم العنف لجعلك أو لإجبارك أن تؤمن بفكرته وعنفه وتطرفه ورؤيته .

لذلك كي نحارب التطرف والإرهاب علينا أن نُصلح كل الأجهزة الأمنية ،

ونحسّن نظام التعليم ، ونطوّر قطاع الأعمال والصحة والخدمات ، وإصلاح

القضاء ، ودعم قدرات الشباب ، بهدف إصلاح الدولة والمجتمع والفرد .

فبيئة الفساد الفكري والسلوكي والاقتصادي بمرور الزمن تبيد المجتمع ،

وتبقى أجهزةٌ بعينها مستفيدةٌ من الفساد ومتورطة فيه ، لذلك إن التداول

السلمي للسلطة يفتح طريقاً فسيحاً لإستيعاب مختلف الطاقات وعملها بصورةٍ حقيقية ، ويقف حائلاً أمام نشوء سلطةٍ منغمسة بالمال الفاسد ، ومستفيدة من المتطرفين لترسيخ وحماية وجودها .

فالفهم الخاطىء للدين ومبادئه ، والإحباط الذي يلقاه الشباب نتيجة

افتقادهم المُثل التي آمنوا بها في سلوك المجتمع . والخطأ في إدراك حقيقة المثل العليا وطبيعة المجتمعات الإنسانية وأسلوب الإصلاح ، وشيوع القهر والقمع سواءً كان على مستوى الأسرة أو المدرسة أو الشارع أو المجتمع والدولة ، وغياب الحوار المفتوح ، كل هذه الأمور وسواها هي السبب الرئيسي والأساسي لإثارة التطرف والعنف وليس علاجاً له .

فلذلك إن مواجهة ومحاربة ظاهرة التطرف تتطلّب وضع إستراتيجية طويلة المدى على المستوى القومي ترتكز بشكلٍ أساسي على ضرورة التطوير الحقيقي للتعليم في كل مراحله ، وتشجيع النقاش والنقد ، والإبداع والابتكار ، ومحاربة الفساد بكل صوره وأشكاله ، والعمل على إقامة مشروعٍ تنموي نهضوي حضاري وشامل يكون عماده كل مكونات المجتمع كوضعٍ وكمشاركةٍ وتنفيذاً ، مع إعلاء قيم العمل والعلم والثقافة والهوية والولاء والانتماء ، وإطلاق سياسة الحريات والتعددية والتداول السلمي للسلطة ، والتوزيع العادل للثروة الوطنية ، والربط الجوهري بين العطاء للمجتمع والعطاء للفردِ أو المواطن .

وجميلٌ أن نقوم بمراجعة كل خطاباتنا السياسية والاقتصادية والاعلامية والدينية والتربوية كي نستطيع أن نخطو خطوة سليمةً نحو الأمام .

فالتطرف لا يُواجه فقط بالسلاح ، بل يواجه من خلال الثقافة والوعي والفكر

والعلم ومحاربة الفقر ، وإشاعةِ سياسة التعايش بين كل مكونات المجتمع

الذي يجب أن يكون متآلفاً ومتساوياً في كامل حقوقه وواجباته من خلال

سيادة القانون .

أنور أصفري –  صفحته الشخصية