دعت المعارضة الليبرالية المواطنين الروس، السبت 23 يناير، إلى التظاهر دعماً للمعارض، أليكسي نافالني.
وكان نافالني قد اعتقل في 17 يناير الجاري، عقب وصوله إلى موسكو قادماً من برلين، إثر اتهامه بانتهاك شروط الحكم الصادر بشأنه في قضية اختلاس للأموال، بالسجن مع وقف التنفيذ. وبعد اعتقاله، نشر فريق نافالني فيلماً على موقع “يوتيوب” حول قصر يزعم أنه مملوك للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحسب نافالني، وتم بناؤه بأموال “رجال أعمال مقرّبين من بوتين”.
كان نافالني يأمل، استناداً لتعليقات شخصيات المعارضة التي رأيتها، ألّا تجرؤ السلطات على اعتقاله قبل تنصيب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لأن موسكو، حسبما يقولون، لا تريد مزيداً من التعقيد في العلاقة مع واشنطن في فترة صعبة بالأساس في العلاقات بين البلدين.
لم تتحقق خطة نافالني، ولكن ليس على نحو جذري، فكما يبدو تسير بقية أجزاء الخطة وفقاً لما هو مرسوم لها.
رفض الكرملين، بطبيعة الحال، اتهامات نافالني بشكل قاطع، ويجب أن نتفق على غياب أي دليل على أن القصر المذكور يخص الرئيس بوتين، في الوقت الذي تأتي اتهامات نافالني في صورة حقائق، وبيانات مؤكدة، تليها مقاطع مجتزئة من مؤتمرات صحفية لبوتين، وكأنه يؤكد كلمات نافالني.
إحدى التفاصيل الصغيرة الموجودة في هذا الفيلم تخبرنا عمّن كتب سيناريو الفيلم حول قصر بوتين المزعوم، وهي غرفة أطلق عليها نافالني اسم “غرفة الطين” mudroom، وهي بالروسية “المدخل”، حيث لا توجد في اللغة الروسية عبارة كهذه، وترجمها نافالني حرفياً عن الإنجليزية دون معرفة، بعد أن قدمها له شخص ما، باللغة الإنجليزية.
ليس لدينا فرصة للتحقق من جميع تفاصيل البيانات التي قدمها نافالني، ولكن يمكننا الآن استنتاج أن جزءاً كبيراً على الأقل من هذه البيانات لا أساس له من الصحة.
إن هذا الحجم من الافتراءات العلنية ضد رئيس الدولة وحده كافٍ لقضية جنائية مستقلة، وحقيقة أن نافالني يرتكب ذلك جهاراً نهاراً، تسمح لنا بالقول إنه يتوقع أن يفلت من العقاب. وهذا ممكن فقط إذا تمت الإطاحة بالحكومة الشرعية في روسيا في المستقبل القريب جداً، في الأشهر المقبلة. أعتقد أننا هنا بصدد محاولة إشعال ثورة ملونة أخرى تنظمها أجهزة المخابرات الغربية، ولكن هذه المرة في روسيا.
ولنجاح مثل هذا الانقلاب، لم يعد من المهم ما إذا كان الفيلم الذي أعدته المخابرات الغربية، والذي نقله نافالني إلى منصة “يوتيوب”، صادقاً أم لا. المهم والرئيسي هو كيف ينظر المواطنون الروس إلى هذا الفيلم، وأي نسبة منهم على استعداد للمشاركة في تنفيذ الخطة التي وضعها الغرب.
لماذا يحدث ذلك الآن؟ يبدو واضحاً ارتباط هذه الأحداث بوصول الحزب الديمقراطي إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلاً عن مصالح العولمة، وكذا مصالح “الدولة العميقة” (بما فيها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية). إن الولايات المتحدة الأمريكية تغرق تدريجياً في أزمة مدمرة لا يوجد لها مخرج آمن. ومن الواضح أن الأزمة تتدهور وستنتهي عاجلاً أو آجلاً بانهيار الاقتصاد والحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يتبق لدى واشنطن سوى 5-10 سنوات كحد أقصى، قبل أن تحل الصين محلها كأكبر اقتصاد في العالم، يلي ذلك انهيار الولايات المتحدة. وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن الدولة العميقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية قررت عدم القتال على جبهتين في وقت واحد، وتصفية روسيا أولاً قبل مواجهة الصين.
في حديثهم عن الوضع الداخلي الروسي، يقول معظم المحللين الروس المعتدلين إن روسيا تستند إلى “عقد اجتماعي” بين المواطنين والنخبة السياسية التي تمثّل السلطة الحاكمة، أياً كانت هذه السلطة والقوى السياسية التي تنتمي إليها، مقابل ضمان الاستقرار والأمن للمواطنين العاديين، ونمو مستقر لرفاهية الشعب الروسي، بما في ذلك أفقر طبقاته، حتى وإن كان ذلك النمو متواضعاً.
وقد نجح فلاديمير بوتين في هذه المهمة حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار أزمة جائحة كورونا الأخيرة، والأزمة الاقتصادية العالمية المتزايدة، والتي أدت إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة مئوية ملحوظة، لكن معظم المواطنين الروس يرون بأم أعينهم كيف أن روسيا تمكنت من تجاوز هذه الأزمة بنجاح أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية.
من ناحية أخرى، فإن المبالغ المذكورة في فيلم نافالني قد تثير مخيّلة المواطن العادي، خاصة في الطبقات الفقيرة. ومع ذلك، فإذا ما نظرنا إلى الأمور بجدية، فما هو واضح وجلي للجميع أن مثل هذه المبالغ، بالنسبة لأي من مجموعات الأوليغارشية التي تطالب بالسلطة في روسيا، لا تسبب أي دهشة. كما أنها لن تمثّل بالنسبة للسياسيين الليبراليين، بما في ذلك نافالني، أي دهشة حينما يقعون تحت سيطرة الأوليغارشيين الموالين للغرب، الذين سرقوا موارد البلاد القومية في التسعينيات من القرن الماضي، ولم، ولا يستطيع نافالني أن يتفوه بنصف كلمة حول هذه القضية.
إن القيمة المعلنة لـ “قصر بوتين” المزعوم من قبل نافالني تساوي تقريباً تكلفة يخت واحد من اليخوت التي يمتلكها الأوليغارشي الروسي أبراموفيتش، لذلك حتى لو صدّق المواطنون الروس البالغون نافالني، فلا أعتقد أن ذلك يمكن أن يصدمهم أو يجبرهم على التخلي عن ولائهم لـ “العقد الاجتماعي” مع السلطة.
إن الذكريات الرهيبة والمؤلمة للغاية لحقبة التسعينيات من القرن الماضي، والتي انتهت بفضل بوتين، هي البديل الذي تعرضه هذه القلة التي تشارك في تمويل نافالني، والذين يتوقعون العودة إلى السلطة إذا نجحت الثورة الملونة في روسيا، وهو أمر بالغ السوء.. يدرك معظم المواطنين الروس أن نافالني هو تجسيد لقوى سياسية سوف تنهب الشعب على نطاق أكبر بعشرات المرات من جميع اتهامات نافالني ضد بوتين، ثم ستدمر روسيا في نهاية المطاف بكل بساطة. لهذا السبب يتمتع نافالني بدعم 2% فقط من المواطنين الروس، ولهذا السبب يراهن وأعوانه على الإطاحة بالحكومة باستخدام العنف والشارع واستغلال أطفال المدارس كدروع بشرية لهذا الغرض.
لا أستطيع القول بأنني أعرف عدد من سينزلون إلى الشوارع يوم السبت. قد يكون هناك عدد قليل نسبياً منهم، إذا كنت محقاً بشأن التزام أغلبية المواطنين الروس بـ “العقد الاجتماعي” مع بوتين. وربما سيكون هناك عدد كبير منهم، لكنني أعتقد، بشكل عام، أن أرباب نافالني قد أخطأوا في الحسابات، لأنهم ببساطة لا يفهمون روسيا، ولا يدركون ما مرّ به الروس قبل ظهور بوتين، ولماذا يمتنون له لهذا السبب، بغض النظر عما تقوله المعارضة الموالية للغرب عنه.
لكني أعتقد أن بعض الشباب، وخاصة تلاميذ المدارس، ممن هم عرضة لجموح الشباب، ولا يمتلكون أدنى فكرة عن فترة التسعينيات من القرن الماضي، وعن مجموعات الأوليغارشية التي تريد القضاء على بوتين، قد ينزلون إلى الشارع، لا لدعم نافالني، بقدر غضبهم من المعلومات التي تم تغذيتهم بها، حتى ولو كانت خاطئة.
أعتقد أننا سنشهد في المستقبل القريب محاولات استفزازية بهدف إراقة الدماء من أجل بدء دوامة: احتجاجات-قمع-مزيداً من الاحتجاجات-مزيداً من القمع، وهكذا دواليك حتى المواجهة الكاملة بين الشعب والسلطة. فتكنولوجيا الثورات الملونة قد تم تطويرها في الغرب على نحو مثالي.
إن الغرب، في طريقه، على ما يبدو، نحو الانهيار، يرغب في تدمير روسيا. لكن بوتين سياسي محنك، وآمل أن تمتلك السلطة الحكمة الكافية لإيجاد توازن بين ضبط النفس والصلابة المعقولة. أعتقد أن محاولات زعزعة استقرار روسيا لن تكلل بالنجاح.
المحلل السياسي/ألكسندر نازاروف
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب