ومضات من حياة رجل ,,, بقلم : مظهر الحكيم

ومضات من حياة رجل
ومضات من حياة رجل

كلمة …

ما أكتبه ليس رواية . ولكنها ومضات مرت بي في حياتي .. قد أجمعها مستقبلاً وأعطيها حالة تسلسلية . ولكن الآن أقدم ما يجول في فكري من ومضات مرت بي  وما أذكره بدقة . وأتذكره كلما مرت بي الأيام أذكره دون أن أذكر ما قبله أو بعده أنا صادق في كل ما أكتب .                                                                            دعوني أعود بذاكرتي إلى أول ما مر بي وبذاكرتي من ومضة …

… الومضة الأولى ….

ومضة برزت لذهني لا أدري كيف برزت ولكن توارد الأفكار تقفز في ذهن الإنسان دون تحضير ودون استئذان .                                                              أذكر طفلاً لا أدري ما عمره ثلاث سنوات أربعة خمسة . لا أدري . ولكن أذكر ذاك الصبي الصغير . بشعره المجعد الأسود . وكلابيته الحريرية . ونعله الصغير كان يلعب في حوش منزله وفجأة سمع أصوات غريبة أصوات رجت الأرض منها وفجأة نظر حوله يبحث عن المصدر أذكره . كان يركض بسرعة باتجاه الباب الخارجي للبيت العربي القديم ..                                                                                                       سمع هدير دبابات . أفرحه الصوت وركض إلى الباب الخشبي الكبير ذي البابين الكبير .. والصغير لم يلتفت لصراخ أمه لقد لمحت تصرفه واندفاعه .. كانت تنادي خائفة عليه . كان يضحك سعيداً بما سمع ومبهوراً سلفاً بما سيرى .. أفلتت من قدمه فردة من نعله . تركها . واستمر يركض . الحوش كبير . من تراب يمتزج لونه بالبرتقالي والأحمر الفاتح .. وممر من الحصى مرصوفة بدقة . لتكون معبراً من الباب إلى غرفة الضيافة ..                 

مناداة والدته مستمر . وابتسامته وفرحته واندفاعه مستمر . وفتح الباب الصغير بعد أن وقف على طرفي أصابع قدميه . وشق الباب وطل منه ورأى شيئاً كبيراً ضخماً يمر أمامه .. دهش للوهلة الأولى ما هذا الشيء الضخم .. ولكنه استوعب . ونظر برهبة ودهشة ..                  

 إنها دبابات بلونها الزيتي الغامق . وجنازيرها التي كانت تدوس الأرض وتزلزل المكان .. ولكن لم يهمه هذا الزلزال . ولا ضخامة هذا الشيء الذي عرف فيما بعد أنها دبابة لعدو عدو استحل بلده الآمن وها هو اليوم يرحل عن بلاده لم يكن يعلم الإنكليز أم الفرنسيين .. ولكن فيما بعد أدرك أن الجيش المحتل الفرنسي كان يرحل عن بلاده .. ومن بلدته التي كان اسمها المزة .. ويمر من أمام داره التي بنيت جدرانها من لبن وطين مطعمة بأحجار كبيرة . وكانت الجدران سميكة وعالية .. نعم جدران هي سور البيت الذي يعيش به .. ولم يعد يسمع صراخ الأم التي تلاشى مع صوت هدير الدبابات .                                                                               وقف ينظر .. ينتظر مندهشاً لما يرى .. وزادت ابتسامته عندما رأى جندياً يطل من فتحة الدبابة من رأسها .. ويشير له ويبتسم جمدت عيناه على عيني الجندي لماذا يبتسم له ؟ لم يكن يعلم هل هذا عدو أم صديق ؟ . لكنه يبتسم له .. ومن خلال عينيه الصغيرتين التي لمعت ابتسم وضحك ولوح بيده .. لم يعلم وقتها أن الذي يلوح له كان يستعمر بلاده . ولكنه لوح وضحك وقفز .. هل قفز فرحاً لجلاء الفرنسيين عن بلده أم فرح وضحك وقفز لأن رجلاً أشقر ضخماً على رأسه خوذة خضراء يلوح له من فتحة الدبابة .. وكأنه قريبه . أو صديق والده . لم يفهم وقتها شيء مما يجري ..                            ابتعدت الدبابة .. واقتربت أخرى .. وقفز ولوح .. لمن يلوح .. لو عرف وقتها لمن يلوح ما كان فعل . ما كان قفز ما كان ضحك . ربما انهمرت لحظتها من عينيه دمعة ليس حزناً بل فرحاً .. صغيرٌ هو لفعل أي شيء .. لم يكن يعلم ببراءته وجرأته وتحديه لأمه التي لم يلبي ندائها ويعود إلى الداخل .. لم يكن يعلم أنه كان يلوح لعدو أحتل بلاده واستغل شعبه . واستبد حرياتهم .. هكذا هم الأطفال .. يولدون أبرياء . بكل ما في الكلمة من معنى لا يعون ما يجري . ويعبرون دائماً بابتسامة بريئة . ابتسامة لا تحمل أي حقد أو كره أو ضغينة والدبابات تبتعد في طريقها إلى الربوة . وبعدها إلى أين لا يعرف ..                                                        ولم يذكر ألا ويداً جذبته من الخارج إلى الداخل . وأغلق الباب بقسوة .. ولم يذكر إلا ويداً انهالت على خده بصفعة قوية . تلاشت ضحكته  وابتسامته واندفاعه وصدرت عنه صرخة وبكى .. نعم بكى من قوة الصفعة التي ألمته ..                                     هذا ما أذكره الصفعة والبكاء .. وهدير الدبابات يغطي بكائي وألمي .. ويبتعد ..

حاول ان يفهم ما تقوله والدته . صوتها أصبح صدى لا يفهم منه شيء ..

واقترب والده . وأخوته .. وقفوا متفرجين .. لا يدرون لم أخوهم الصغير يضرب ويبعد عن باب البيت .. لم يعد يسمع إلا صدى هدير .. هل هو هدير والدته أم هدير الدبابات ..

مظهر الحكيم – مخرج وفنان سوري