كما توقع كل حصيف أن اللقاء الذي سيجمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موسكو لن يفضي لأكثر من تسوية، وهذا ما حصل فعلاً.
لقاء الساعات الست الذي طال انتظاره لم يثمر أكثر من تسوية هشة قابلة للانفجار بأي لحظة. أو بلغة تفاؤلية أكثر تأجيل الكباش بين الجانبين في الشمال السوري، وبالتحديد حول وعلى محافظة إدلب إلى وقت آخر، والرهان على متغيرات قادمة من شأنها ترجيح الكفّة لأحد المتصارعين، وبالتالي مباغتة خصمه بضربة قاضية تجبره على الاستسلام والانسحاب نهائياً من الحلبة.
وبانتظار تلك اللحظة القادمة، يمكن القول إن بوتين حقق في هذه الجولة فوزاً كبيراً بالنقاط على خصمه أردوغان، ولعل أهم هذه النقاط قبوله بمد يد المساعدة للخروج الآمن من هذه الأزمة وحفظ ماء وجهه، بعد أن ورط نفسه بتهديدات وشعارات كان يطلقها بمناسبة وبغير مناسبة طيلة الأسبوعين الأخيرين اللذين شهدا ذروة الصراع.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرض على نظيره التركي رجب طيب أردوغان القبول بالوقائع الميدانية الجديدة، ما يعني أن صراخه الذي ملأ الدنيا وتهديداته وإنذاراته للجيش السوري للعودة إلى حدود اتفاق سوتشي، ذهبت كلها أدراج الرياح. كما جدد بوتين تأكيده التزام بلاده بوحدة الأراضي السورية
في الشكل العام للقاء موسكو، حرص المضيف الروسي على إرسال رسائل صارمة للضيف التركي قبل أي حديث؛ فوضع في قاعة الاجتماع تمثالاً للإمبراطورة الروسية كاترين الثانية التي تعد واحدة من أهم حكام القيصرية، وفي عهدها خاضت روسيا حروباً ضروسة مع السلطنة العثمانية، تمكنت في نهايتها من إلحاق هزيمة كبيرة بها؛ حيث شجعت الحركات الثورية في البلقان ضد العثمانيين ودعمت الولاة المتمردين عليها، إلى أن حصلت على ما تريده منها، وإجبارها على التنازل عن مناطق شمال البحر الأسود وبحر آزوف. ولم تستخدم كاترين في صراعها مع السلطنة العثمانية، آنذاك، القوة العسكرية وحسب، بل كانت في كثير من الأحيان تلجأ للدبلوماسية والمخارج السياسية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، القادم من عمق أجهزة المخابرات السوفيتية، استحضر كل هذا التاريخ دفعة واحدة ووضعه وجهاً لوجه أمام ضيفه، وكأنه كان يريد القول له: “هل انتهى الحوار بالنيران وحان وقت الحلول الباردة.. وهل كنت ستتكبد كل هذه الخسائر لو أنك غلّبت صوت الحكمة والعقل على صوت الانفعال والهروب إلى الأمام؟”.
الكلام السابق لا يعني أبداً أن الرئيس التركي حضر إلى موسكو بلا أسلحة، ولكنه في قرارة نفسه كان يدرك أن كل أسلحته تكتيكية وحسب، وقد رماها أصلاً في الميدان قبل اللقاء، وعجزت وستظل عاجزة عن الصمود طويلاً أمام أسلحة بوتين الاستراتيجية. ومن هذه الخلفية كان لا بد من اتفاق ولو مؤقت لنزع فتيل الأزمة ووقف إطلاق النار.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرض على نظيره التركي رجب طيب أردوغان القبول بالوقائع الميدانية الجديدة، ما يعني أن صراخه الذي ملأ الدنيا وتهديداته وإنذاراته للجيش السوري للعودة إلى حدود اتفاق سوتشي، ذهبت كلها أدراج الرياح. كما جدد بوتين تأكيده التزام بلاده بوحدة الأراضي السورية وحتمية إيفاء تركيا بتعهداتها السابقة بتحييد المعارضة المصنفة إرهابية عن المعارضة المعتدلة، فضلاً عن الإصرار على ضمان سلامة الطريقين الدوليين (M 4 وM 5). أما مشاركة الشرطة العسكرية التركية بالدوريات مع نظيرتها الروسية لمراقبة هذين الخطين فهو محض شكلي بلا أي تأثير أو فعالية، لأنها في الأساس أحد المخارج التي أهداها بوتين لأردوغان لحفظ ماء وجهه.
لا شك في أن الذين أصغوا لأردوغان وتهديده ووعيده، أصيبوا بخيبة أمل كبيرة من مخرجات لقاء موسكو، فهم بالأساس مسحورون بخطاب الشعارات والعواطف والعنجهيات، ولا يعلمون أنها ستُرمى في سلة المهملات على باب الغرفة المخصصة لحديث السياسة والمصالح العليا المشتركة قبل الدخول.
فالرئيس التركي أخطأ بحساباته ودفع الثمن؛ خاصة عندما رمى بورقة المهاجرين بوجه أوروبا، التي سرعان ما ارتدت عليه من كل النواحي.
وبدلاً من أن تقربه من الأوروبيين ليحشدهم معه في مواجهة روسيا، كما كان يتوهم، رفعت من وتيرة العداء الأوروبي عليه وإصرارهم على رفض أي شكل من أشكال الابتزاز في هذا الموضوع، لتجد أنقرة نفسها مضطرة للتشارك مع الأوروبي بهزيمة أخلاقية وإنسانية، ومضطرة لنشر نحو ألف من رجال شرطتها على الحدود مع اليونان، لمنع عشرات آلاف المهاجرين العالقين هناك من العودة إلى أراضيها وتحمّل كل الأكلاف المادية والمعنوية المترتبة على هذا الإجراء.
وفي هذه الأزمة أيضاً، أحرق أردوغان ورقة اتفاقية الدفاع المشترك لأعضاء حلف الناتو، التي حاول مراراً التلاعب بمضمونها، وكان الرد عليه واضحاً بأن هذه الاتفاقية يتم تفعيلها فقط عندما تتعرض أراضي دولة عضو من الأعضاء لعدوان خارجي، وبكل المعايير والقوانين الدولية تركيا دولة معتدية على جارة لها، وبالتالي لا يوجد مبرر ما لدخول الناتو هكذا حرب.
والجواب نفسه تلقاه من مماطلة الولايات المتحدة في الرد على طلب تزويده بمنظومة صواريخ الباتريوت، المخصصة أيضاً لمواجهة الغزاة والاعتداءات وليس العكس.
ثمة الكثير مما سيقال لاحقاً عن مخرجات اتفاق موسكو، ولكن أهم الإنجازات فيه، باعتقادي، هو وقف إطلاق النار وتجنيب المدنيين الأبرياء في تلك المنطقة المنكوبة المزيد من الويلات وعذابات النزوح والهروب من الحمم المتساقطة فوق رؤوسهم من كل صوب.
وإن كان ثمة أمور فيه أبقيت قيد الكتمان فستتم إماطة اللثام عنها في اجتماعات الجانبين على مستوى الدبلوماسيين والعسكريين والأمنيين خلال الأيام المقبلة.
وليبقى أيضاً أن تركيا تقف اليوم أمام مفترق طرق حاد؛ فإما مراجعة حساباتها بدقة فيما يخص تطلعاتها وأحلامها الإمبراطورية الغابرة والقبول بتموضعها كدولة طبيعية في الإقليم، أو إكمال الطريق نحو المزيد من الإخفاقات وشراء العداوات مع محيطها القريب والبعيد.
أما أردوغان فأمامه خلال الفترة المقبلة جملة من التحديات الداخلية، واختبارات رأب الصدع الوطني الذي أحدثه وتجسد بوضوح في عراكات البرلمان مؤخراً، عند مناقشة مشروعية إدخال البلاد في مواجهة مع روسيا في سوريا، فضلاً عن مدى قدرته على إخماد نيران العنصرية التركية ضد اللاجئين السوريين، التي ارتفعت مؤشراتها إلى أعلى مستوى بعد الضربات الموجعة التي تلقاها جيشه مؤخراً.
هذه العنصرية التي إذا ما تحولت إلى مواجهات مهما كان حجمها، من شأنها إشعال النيران على امتداد الخريطة التركية المتناهية الاختلاف والتعدد العرقي والأيديولوجي.