تعدَّدت جبهات الحصار على الشّعب الفلسطينيّ، واشتدّت منذ أن أعلن الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، مدينة “القدس عاصمة موحَّدة لإسرائيل”، في 6 كانون الأول/ديسمبر عام 2017. جاء هذا القرار بعد تصريحات سابقة بأنَّ السَّفارة الأميركيَّة ستُنقل إلى القدس، كخطوة فعليَّة تؤكّد جدّية تصريحات ترامب التي ترجمها في الواقع ونفّذها، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسيّة.
وفي ظلِّ إصدار قرار “الضمّ” باعتبار القدس عاصمة موحّدة لـ”إسرائيل”، وهو ما “لم يكن جسَّ نبض”، فتحت الإدارة الأميركية نيرانها السياسيَّة بعد أن ضمنت سراً وعلناً أنَّ ثمة جبهات أخرى رديفة لها، فمن جبهة الحصار الاقتصادي على غزة بأيدٍ عربيّة، إلى التذكير بمبادرة السلام العربيَّة 2002، بدأ القصف السياسيّ لـ”صفقة القرن”، وكان ذلك عربياً رسمياً قبل أن يكون أميركياً، وبدأت الوثائق السريَّة تتسرَّب، ومنها المسودة التي عرضتها قناة “الميادين”، وصولاً إلى اللقاءات السرية التي جمعت مسؤولين خليجيين وإسرائيليين في أكثر من عاصمة عربيَّة.
ترافق هذا التّسارع مع تصريحات بنيامين نتنياهو، بأنَّ بعض الدول العربيَّة أصبحت جاهزة للتبادل الدبلوماسي، لكنَّ الإعلان عن ذلك يحتاج إلى بعض الوقت.كان مسرح الأحداث يشي بالتّوقيت الَّذي ستُعل فيه بنود “صفقة القرن”، بعد أن “توقَّعت” واشنطن عدم حصول تطوّرات جدية عربية وفلسطينية رسمية يمكن أن تعكّر صفوها. وتمَّ الإعلان عن بنودها في البيت الأبيض في 181 صفحة، بحضور بنيامين نتنياهو وبيني غانتس ووزراء خارجية الإمارات والبحرين وعمان، وفي ظلِّ التأييد المطلق من المملكة السعودية، وإن غاب ممثّلها.
إنَّ بنود الصّفقة لا تحتاج إلى الكثير من البحث والجدال، فهي تقول إنَّ “الدَّولة اليهودية” هي كلّ فلسطين، ولا دولة فلسطينية إلا على بعض الجزر المقطّعة، ولا قدس، كما لا عودة للاجئين الفلسطينيين. وبذلك، نكون أمام “دولة” فلسطينية على مساحة 6 في المئة من الضفّة الغربيّة، أي أقلّ من 1000 كم2 من المساحة الكلّية للضفّة، وهي 5860 كم2.
وتُغدق الأموال للتنمية الاقتصاديّة في الضفة الغربيّة مع مشاريع يتمّ العمل عليها لـ”ترانسفير” أهالي منطقة المثلث في فلسطين التاريخية إلى الجزر في الضفة الغربية، والَّذين يصل عددهم إلى 300 ألف نسمة، وكذلك ضمّ الأغوار وشمال البحر الميت.
الأمر الأكثر أهميّة في “الصفقة” هو البحث عن الوطن البديل، والعين هنا على الأردن. يأتي ذلك في خطوةٍ مستقبليةٍ بعد ضمان تنفيذ المرحلة الأولى التي تمتدّ لـ4 سنوات، لاختبار مدى جديّة السّلطة في محاربة “الإرهاب”، ونزع سلاح المقاومة في غزة، وتنفيذ التعهّدات التي تفرضها “صفقة القرن”.
في المشهد الفلسطينيّ، حضر الخطاب الرافض من السّلطة وفصائل المقاومة، وشهدنا تصريحات ناريّة من السّلطة برفض الصّفقة واعتبارها مؤامرة على الشعب الفلسطيني، لكن هل يكفي هذا الخطاب الَّذي تردَّد طيلة عقود “أوسلو” والتنسيق الأمني، في ظلِّ إفراغ الضفة الغربية المحتلة من المقاومين، وهو ما يتفاخر به القادة الأمنيون، الذي يقولون إنهم “أحبطوا أكثر من 400 عملية في الضفة الغربية في العام 2019”.
ما يثير الريبة هو خطاب السيّد محمود عباس أمام وزراء الخارجية العرب، الذين شارك بعضهم في حفل “سرقة القرن”، وتفاخره بأنَّ الاتفاقيات مع الاحتلال كانت تسير بشكل جيّد، وحين يتدخَّل الأميركي يقلب الطاولة؟! والسؤال هنا: هل البحث عن شركاء “للتسوية” في ظلِّ مشهد الخراب هو خيار الشعب الفلسطيني أو خيار السّلطة؟
لم تخفِ بعض الأنظمة الخليجيَّة شراكتها في الإعداد لـ”سرقة القرن”، وهي المموّل الأكبر للصَّفقة والدّافع إلى التطبيع، كما حصل مؤخراً في لقاء عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس “السيادي” السوداني، ونتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية، وذلك بترتيب سعوديّ – إماراتيّ.
على مَنِ الرهان؟ وما مغزى هذا الخطاب الَّذي يطلب من وزراء الخارجية العرب دعم السّلطة، في حين أنَّ بعض ممثلي تلك الأنظمة يشاركون فعلياً في “مجزرة القرن” والتآمر على السلطة وعلى قضية فلسطين وشعبها؟
مرَّت عقود على “اتفاقيَّة أوسلو”، وقدَّم كيان الاحتلال معلومات لم يحلم بها، كما قال السيد محمود عباس، والحصاد قبض من ريح، فهل نحن أمام خطوات فعليَّة تنسف كلّ المسارات السابقة بشكل جذريّ، للعودة إلى خيارات الشعب الفلسطيني التي رفعها سند الطرمان في القدس، في عمليّة دهس بطولية لجنود النخبة، وقالتها القدس والضفة والخليل وجنين ونابلس وكلّ قرية ومدينة ومخيم؟ هل نحن أمام الأمانة التاريخيّة وتبنّي خيارات الشعب الفلسطيني في غزة وأراضينا التاريخية في العام 1948؟
تتواصل “مجزرة القرن” منذ 100 عام، ويواجه الشَّعب الفلسطينيّ مشاريع التّصفية وإلغاء الوجود، وينجح في إدامة الاشتباك مع الاحتلال، وهو لم ولن يتراجع عن مشروعه الوطني في استعادة أرضه التاريخية.
وما يُطرح اليوم يؤكّد أنَّ الإدارات الأميركيَّة المتعاقبة لم تبرح مربّع تقسيم المنطقة واحتواء بعض الأنظمة الرسميّة العربية التي تساوقت مع المشاريع الأميركية في تصفية القضيّة الفلسطينيّة.
تنسحب “سرقة القرن” أيضاً على المنطقة في محاولات فرض سياسة “الأمر الواقع”، من تهويدٍ للجولان العربيّ السّوري الّذي يشهد مقاومة متصاعدة، إلى تحييد الكثير من الأنظمة العربية عبر الضغوط الاقتصاديّة. وفي محطّته الأخيرة، يصبّ هذا كلّه في تهيئة مناخات الصعود لـ”إسرائيل” الكبرى.
إنَّ اعتلاء منابر الخطابة والتعويل على شركاء أوروبيين “يكبحون” جموح أميركا لن يقفا حائلاً دون تنفيذ “الصّفقة”، وسنوات “أوسلو” العجاف تقول الكثير في ظلِّ التهويد اليومي.
المقاومة وحدها تطيح برأس “سرقة القرن”. هذا ما قاله البطل الأسير سند الطرمان، حين وجد أجوبته، محاكياً الشهيد المشتبك باسل الأعرج.
المقال يعبر عن رأي الكاتب
المصدر : الميادين نت