المواقف والأحداث التاريخية التي كانت من صنع قادة عظماء أخلصوا لوطنهم وشعوبهم حفظها التاريخ وخلدها ودونها المؤرخون على صفحات كتبهم لتشكل محطة يتزود منها الوارثون فتصبح القدوة والبوصلة التي يقتدي بها المخلصون لوطنهم المؤمنون بالانتماء للهوية، أولئك هم المؤتمنون الحافظون لحقوق الوطن والإنسان والأمة، الأمر الذي يضمن مستقبل الأجيال ويحفظ الأوطان من غدر الغادرين وكيد الكائدين مهما اشتدت الأزمات والمؤامرات.
أما تلك المواقف والقرارات المخزية التي صدرت عن رؤساء وزعماء دول وكانت سبباً في إهانة شعوبهم وفرطوا بتاريخ وأمجاد أمتهم وأسهموا في خراب الأوطان وتشتيت الفكر والذاكرة وشوهوا تاريخ الأمة والمجتمع، فلقد دونها المؤرخون المخلصون لكن ليس من باب التخليد إنما من باب التمعن بتفاصيلها ولتكون مادة تدرس في البحث عن الحالات الشاذة التي صادفت تلك الحقبة من التاريخ لأخذ العبر والتنبه من دوافع حالات الغدر والاستفادة من تجارب الماضي باليقظة وبناء درع تقي من تكرار الوقوع بالخيبات والعثرات التي شكلت ولم تزل عائقاً أمام مستقبل الأجيال القادمة وأمام تحصين الأوطان.
قرار الرئيس المصري محمد أنور السادات بخيانة قلب العروبة سورية في حرب 1973 لم يكن وليد ساعة الحرب إنما كان قراراً متفقاً عليه مع سبق الإصرار والترصد ولو أن كتب التاريخ لم تبح بكامل أسرار ذاك القرار المشؤوم الذي أدى إلى توجيه طعنة لسورية العروبة وللأمة حتى أضحى نصر أمتنا الموعود غورا، الأمر الذي أصاب القائد التاريخي حافظ الأسد بالألم والخيبة.
وإذا كان للتاريخ فضل بأنه رصد المواقف وميز بين العظماء والخبثاء فلا بد لنا من التذكر بأن القادة العظماء غُدِر بهم مرة واحدة في تاريخهم فمنهم من نجا واتعظ مدركاً خطأه ومنهم من تمكن الغدر من النيل منهم.
قدر الرئيس حافظ الأسد تلقي الطعنات من معظم العرب، لكنه دافع عن سورية وعن الأمة العربية بجهد استثنائي لا مثيل له محاولاً إيجاد موقف عربي موحد لمواجهة الهجمة الصهيوأميركية الخليجية الشرسة على سورية، لكن حافظ الأسد تميز بالمثابرة على القراءة الإستراتيجية الدقيقة والصحيحة ليكتشف أن لا أمل من موقف عربي موحد لأمد طويل وأنه لا مناص من كسب الوقت ريثما تكتمل عدة الاعتماد على الذات السوري وبناء القدرات بالاستعداد والاكتفاء الذاتي بصورة تضمن استقلالية القرار السوري من دون الحاجة أو الارتهان للخارج بهدف بناء تحالفات إستراتيجية متوازية ومتوازنة جديدة تشكل الدرع الواقية لسورية.
ست سنوات من المفاوضات الماراثونية بين حافظ الأسد والقوى الكبرى وفي مقدمهم رؤساء تعاقبوا على ريادة البيت الأبيض في واشنطن، جميعهم فشلوا بالحصول على توقيع من حافظ الأسد إيماناً منه بعدم تكافؤ الفرص وحفاظاً على تاريخ سورية العروبة وتاريخ الأمة العربية رغم تلقيه للطعنات العربية المتتالية.
تمسك حافظ الأسد بالهوية والمبادئ والقيم العربية ولم يفرط بذرة واحدة من قناعاته بينما معظم العرب كانوا يبحثون عن ثغرات وفجوات تمكنهم من تغيير السلوك السوري واختراق سورية العروبة.
بعد ست سنوات مضنية من المفاوضات والمؤامرات وفي العام 1979 نجحت الثورة في إيران من الإطاحة بالشاه وإعلان الجمهورية الإسلامية في إيران التي رفعت منذ اليوم الأول للثورة راية تحرير فلسطين وحولت سفارة العدو الإسرائيلي إلى سفارة لدولة فلسطين رافعة علم فلسطين في وسط طهران.
كانت الثورة الإيرانية في أولها وسط بحر هائج محاطة بدول باعت فلسطين وتآمرت على سورية ثورة تبحث عن قائد تاريخي وحليف صادق فلم تجد إلا القائد العربي حافظ الأسد.
ولأن حافظ الأسد صادق الوعد والكلمة كان لا بد للثورة في إيران من المبادرة وأن تبادل الرئيس حافظ الأسد بالتحالف الصادق الذي أنتج حلفاً إستراتيجياً شكل قلعة من الصمود الأسطوري. استطاعت كل من سورية وإيران تحطيم كل مخططات الشرق الأوسط الجديد ومخطط تقسيم الوطن العربي وإحباط تنفيذ صفقة القرن وتهويد القدس على الرغم من كل المحاولات والمؤامرات والضغوط الاقتصادية والعسكرية العربية والغربية ضد هذا التحالف الإستراتيجي.
اليوم وبعد مرور تسعة عشر عاماً على غياب القائد حافظ الأسد إلا أن وصيته التي حملها الرئيس بشار الأسد بكل أمانة بالحفاظ على مبادئ مدرسته الإستراتيجية والتمسك بالتحالف الإستراتيجي مع الثورة في إيران، أنتجت شرق أوسط جديداً لكن بنسخته السورية الإيرانية الذي شكل منصة تاريخية تنطلق منها سياسات المنطقة برمتها بعد نجاح تطويق دول التآمر الخليجي كاشفة مدى هشاشة تلك الأنظمة وتحالفها مع الأميركي بالإضافة إلى نجاح باهر في تطويق العدو الإسرائيلي بالمقاومة المؤمنة ولأول مرة بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كاشفة بذلك الطوق عن وهن وعجز إسرائيل وحرمانها من تحقيق أي إنجاز عسكري، ما جعل حلم الصلاة في القدس المحررة مسألة وقت لا أكثر مصححة تجاه البوصلة نحو فلسطين ممهدة بذلك الطريق أمام روسيا والصين الانضمام إلى منصة الحلف السوري الإيراني الإستراتيجي والولوج بملفات المنطقة والمشاركة بالصمود لمواجهة وإحباط كل المخططات التي تنوي النيل من أوطاننا وشعوبنا ومنعهم من مصادرة ثرواتنا وعقولنا.
إن الصمود الأسطوري السوري الإيراني أدى إلى تغيير كبير في مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي وإلى انكشاف هشاشة سطوة النمر الأميركي الورقي خصوصاً إذا ما جوبه بالقوة والمقاومة والتصميم على عدم الخضوع للمطالب التي لا تتماشى ومصالح امتنا ومنطقتنا.
فبعد تهديد سعودي إماراتي بنقل المعركة إلى الداخل الإيراني إذا بالمشهد ينقلب ليس بسحر ساحر إنما بسحر الضربات الموجعة المتتالية التي تلقتها السعودية في اليمن وتمنع الحليف الأميركي عن الخوض بمعارك خاسرة دفاعاً عن السعودية أو الإمارات والإذعان بأن لا قدرة أميركية أو إسرائيلية أو خليجية بمواجهة محور المقاومة، فها هي الإمارات تبرم اتفاقاً مع إيران وها هي السعودية نفسها تلحق بها عبر وسطاء ليعترفوا بالهزيمة وانكشاف الحلف الأميركي المزيف.
نخلص للقول: إذا كان النصر قد لاح لنا بيده في العام 1973 لكننا لم نستطع تلمسه نتيجة الخيانة العربية البائنة، بيد أن التاريخ سيسجل لحافظ الأسد أنه أنشأ مدرسة في الوطنية والعروبة والمقاومة عصية على الأعداء مكتشفاً عصر التحالف السوري الإيراني النقي النظيف الحريص على أمن بلادنا وثرواتنا الرافض لأي إملاءات غربية، الحافظ لكرامة الإنسان وتاريخه، وأننا اليوم في ذكرى حرب تشرين في العام 2019 ورغم ما أصابنا من هول الحرب على سورية أو من فوضى مفتعلة في كل من العراق ولبنان والمنطقة، ورغم العقوبات الاقتصادية الظالمة على إيران نستطيع القول: إن النصر بات قريباً وإنه يلوح لنا من مسافة مرئية وإن هذا النصر يمكننا تلمسه لأنه نشأ في مدرسة حافظ الأسد الإستراتيجية التي حافظ على أمانتها ومبادئها الرئيس بشار حافظ الأسد، ولأن النصر أضحى محصناً بالصمود الأسطوري وبالتحالف السوري الإيراني الإستراتيجي.
الوطن السورية