“فائِض القوَّة”.. استراتيجية حرب الاختبارات ,,, بقلم : بسام رجا

تذهب مراكز الدراسات الإستراتيجية إلى استخدام مُصطلَح “فائِض القوَّة” للتأكيد على تنفيذ مشاريع يُراد منها الهيمنة وإظهار التفوّق لفَرْضِ “استراتيجيات دولية” محميّة من أقطابٍ دافِعةٍ لنظريات الرّدع بالقوَّة.. وبالتالي تشكيل مظلّة حامية تستفيد منها هذه الأقطاب من دون أن تتدخّل بشكلٍ مباشر.

القراءة المعرفية في الصراع العربي- الصهيوني ومنذ إقامة كيان الإغتصاب في عام1948من شأنها أن تدفع الدارِس إلى مُلاحظة سياق التعبيرات التي عمل عليها الاحتلال لحماية كيانه من تخويفٍ للمُستوطنين من أن حرباً قادمة تلوح دائماً في الأفق. وهذا يُرتِّب عليهم الجهوزية للمستقبل ـ مُترافِقاً مع دعمٍ استثنائي نوعي أميركي وغربي كي يبقى الكيان صاحِب القرار متى يبدأ حرباً أو يُنهيها.

هذه النظرية ارتبطت بالسياسي الصهيوني إيغال ألون الذي دفع إلى تجسيدها في الضربة الاستباقية أو عنصر المُباغَتة ونقل المعركة إلى أراضي ” العدو” ، ما أتبعه وزير الحرب موشي دايان في حرب حزيران 1967وأخفق في حرب تشرين التي قلبت حساباته وكيانه وأخرجتهم مهزومين.

بعد حرب تشرين في العام 1973 بدا كيان الاحتلال مُستنفراً لإعادة تشكيل وتمتين منظومة القوَّة الرّدعية والهجومية في آنٍ ، مُكِّدساً أسلحة نوعية ليصبح في عِداد “القوى” التي تُعدّ منافسة على الصعيد العالمي في تطوّر ترسانتها. وبالتالي يصبح “فائِض القوَّة” عامِلاً مُقرِّراً في الحسم العسكري في المعارك أو الحروب التي يختارها العدو. وقد أسفرت العلاقات الإستراتيجية الأميركية ـ الصهيونية بعد العام 1973عن تطوّرٍ كبيرٍ ونوعي في التبادلية وصفقات الأسلحة الكاسِرة للتوازُن في المنطقة..حتى أصبح كيان الاحتلال ممَّن يُعدّون في أولوية المُكدّسين لأسلحةٍ استراتيجيةٍ في أية حرب قادمة. وضغطت الحكومات الصهيونية المُتعاقِبة على واشنطن لتحدّ من توريد الأسلحة النوعية للدول الخليجية الحليفة لها مهما تعاظم شأن العلاقة. وهذا ما كان يؤكِّد عليه رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في ولايتيه الأولى والثانية – ورؤساء وزراء الكيان السابقين عملوا على تحشيدٍ كبيرٍ في “الإيباك” ومراكز الضغط الصهيونية في العالم لمُراقبة صفقات أسلحة أو تكنولوجيا تصدّر إلى دول المنطقة من شأنها أن تضعف أو تخلّ بتوازن القوَّة الصهيوني.. فتلك أولوية في سُلَّم التفوّق.

مع تحييد بعض الدول العربية من الصراع العربي ـ الصهيوني بعد العام 1978وتوقيع إتفاقية كامب ديفيد بين كيان الاحتلال ومصر، بدأت واشنطن سياسة الخطة (أ) في الاحتواء لبعض النُظم العربية التي فتحت مُبكراً علاقات سرّية مع كيان الاحتلال برعاية واشنطن.

“فائِض القوَّة” تجاوز أن يكون مُجرَّد أوراق وخطط في الأدراج- وهذا ما حملته وقائع الحرب الصهيونية على العاصمة اللبنانية بيروت لتشتيت قوَّة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وإنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني. وما هشَّم التقديرات الصهيونية أن تيار الوعي المقاوِم لم يُصَب في مقتل ـ كما خطّطت الدوائر الغربية واشنطن. ومنذ العام 1982 اشتدّ ساعِد المقاومة في لبنان التي واجهت “فائِض القوَّة” الأميركي والحلف الأطلسي وأفشلت اتفاق 17 أيارالذي كان يُراد منه أن يكون معبراً إجبارياً لكامب ديفيد جديدة.

مع تفجّر الانتفاضة الفلسطينية الأولى في فلسطين 1987 واجه الاحتلال الصهيوني في فلسطين وجنوب لبنان مقاومة مُتصاعِدة ولم تعد سياسة “فائِض القوَّة” قادِرة على تثبيت وقائع ميدانية لصالح الاحتلال، فالضفة الغربية وغزَّة والقدس وأرضنا التاريخية في العام 1948 كلها كانت على قلب مقاتلٍ واحدٍ ، والجنوب اللبناني رفع من منسوب مقاومته في مواجهة العملاء (سعد حداد ـ إنطوان لحد).

تصاعدت مخاوِف الدوائر الأميركية من فعل المقاومة وقلب الطاولة لتُسرع في ترتيب عقد مؤتمر مدريد “للسلام” العام 1991 الذي أظهر صورة بعض النظام الرسمي العربي المُهَروِل لإنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني ولتدخل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها الرسمية بازار اتفاق أوسلو الذي هُيّىء له باعترافها بكيان الاحتلال في العام1988.

لم تهدأ الانتفاضات الفلسطينية المُتعاقبة رغم حال الإنكسار التي خيَّمت بظلالها بعد اتفاق أوسلو الذي أوصل المقاومة إلى ما وصلت إليه. لكن بارِقة الأمل في تحرير الجنوب اللبناني في عام 2000 واشتداد المقاومة الفلسطينية في غزَّة والضفة الغربية ومُعادلات الرُعب أعادت الكثير من الثقة لشعبنا. وربما لا نُبالغ إن قلنا إن انتصار تموز في 2006 بدعمٍ من سوريا التي وقفت وتقف إلى جانب المقاومات العربية مع الجمهورية الإسلامية في إيران أعاد الروح لجمهور المقاومة.

لم تعد المقاومة اللبنانية التي يمثلها حزب الله والفلسطينية التي لم تُلق سلاحها مُجرَّد لاعب هامشي في المعركة كما أراد الأميركي والغربي ومعهما بعض النظام الرسمي العربي. بل تصاعد تأثيرها وإن بتفاوتٍ في الساحتين اللبنانية والفلسطينية وفق الظروف السياسية والاقليمية المحيطة بها. وقد استخدم الاحتلال ذات السياسات في “فائِض القوَّة” في حروبه على غزَّة لتأليب جمهور المقاومة وفشل في كل حروبه من تحقيق الأهداف التي ذهب إليها.

محور المقاومة ازداد تمرّساً وقوَّة على جبهات المقاومة ـ وتحصَّن في ردع “فائِض القوَّة” الصهيونية في فلسطين ولبنان وسوريا وفرض معادلات جديدة في المنطقة والإقليم. لكنه لم يُثن الإحتلال عن محاولات إعادة فرض القوَّة بالنار من خلال الحروب الصغيرة التي يشنّها بين الحروب الكبيرة. وهنا تظهر استراتيجية الإحتلال في حربه المفتوحة على غزَّة ـ وطائراته المُسيَّرة التي استهدفت الضاحية الجنوبية وكذلك منزلاً جنوبي دمشق تواجد فيه أخوة من حزب الله، وجميعها تشير إلى أن قادته يسعون من “فائِض القوَّة” إلى تثبيت وقائع بالقوَّة النارية ـ لدَفْعِ المقاومة ومحورها للرضوخ لشروطه والاستسلام للأمر الواقع، في قراءة تغيب عنها التطوّرات السياسية التي حملها انتصار سوريا وقوَّة حزب الله والمقاومة الفلسطينية التي يُحسَب لها في مراكز الدراسات الإستراتيجية الصهيونية.

الذي تبدّل على ساحات المواجهة ليس مُجرَّد حديث نظري بل معرفي وعملي. فمحور المقاومة حقّق انتصاراً كاسِحاً على المشروع الذي أراد تقسيم المنطقة وزجّها في أتون عدوانات وحروب تنهشها وتحرفها عن استراتيجيات المواجهة. والذي يقرأ أيضاً أن المقاومة ومحورها في استعداد وجهوزيّة لم تنل منه كل محاولات الإضعاف والحصار والتحجيم.

إن كانت تقديرات البعض تقول إن رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو يذهب للتصعيد لظروفٍ انتخابيةٍ وهو المأزوم في الداخل، فإن سياسة الاحتلال ونظرية “فائِض القوَّة” تقول شيئاً آخر في سياسة جعل الخصم في حال تخبّط وانعدام الوزن. المقاومة اليوم أقوى بحضورها ومحورها وتنسيقها، وقد أفشلت كل سياسات الاستفراد بها.

“فائِض القوَّة” لم يعد يمتلك قوّة رَسْم سياسات صهيونية قادِرة على وضع استراتيجيات للمستقبل. فالإستراتيجيات تُبنى اليوم في المواجهة البيّنة التي تقرّر الزمان والمكان في حرب إن فتحها الإحتلال سيصعُب عليه أن يُغلِق أبوابها.

كاتب واعلامي فلسطيني

المصدر: الميادين