كما في كل عام ومع إطلالة الربيع يهلُّ نيسان مفعما بأنفاس البطولة التي عطرت أنحاء سوريا في ذاك الصباح حيث دمشق كلها زحفت إلى الشارع الكبير وقد حمل اسم احد ابطال الجلاء الرئيس شكري القوتلي فلم يبقى مكان لموطئ قدم حيث شرفات الأبنية وأسطحتها اكتظت بجماهير الفرح الذي عرف وقتها وربما للمرة الأولى في تاريخه معنى آخر للدموع سوى الحزن والأسى في يوم ليس كمثله يوم وعيد ليس كسائر الأعياد إنه عيد الجلاء،الجلاء الذي أضحى بداية شعلة النار ضد المستعمر التي انطلقت من ميسلون في الرابع والعشرين من تموز عام ١٩٢٠ حيث جرت معركة غير متكافئة في كل شيء سطر فيها أبناء الشعب ملحمة بطولية وانتهت باستشهاد البطل يوسف العظمة وزير الدفاع السوري انذاك الذي صدق قول الشاعر أحمد شوقي حين وقف على قبره في ميسلون قائلاً
هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى
كي لا يرى في جلّق الأغرابا
عيد الجلاء حيث تنتفض الحميّة لديك جسدا وروحا لتسأل ترى ما الذي فكَّ مغاليق تلك المحنة؟ ومن مهَّد لعرس الحرية؟ يأتيك الجواب مسرعا قبل البندقية هناك شيء أسمى يسمى “حب الوطن” وهو وحده الذي أورق وأثمر وأينع فتحول إلى موت يطل على المستعمر من كل باب وشرفة حيث اندلعت الثورات في كل أرجاء الوطن ضد الوجود الفرنسي الغاصب فكانت ثورة الشيخ صالح العلي في الساحل والأمير فاعور في المنطقة الجنوبية الغربية وثورة ابراهيم هنانو في المنطقة الشمالية وغيرها الكثير من الثورات والتي كان أبرزها أيضا ثورة جبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش وغيرهم ممن صنعوا
ربوع الشآم بروج العلا…. تحاكي السماء بعالي السنا..
والذين لم يكن يعني لهم الموت الا شيئاً واحدا أن الوطن سيتحرر من المستعمر الغاشم مقدمين للأجيال دروسا في عشق الوطن بأيد وشفاه من لهب ودم عندما وضعوا حجر الأساس لمشروع النضال التحرري الذي بدأ انذاك ولم ينته ابدا مادام المستعمر يشتهي بلادنا ويحن إليها والمبدأ في ذلك إيثار وتمسك بموروثنا النضالي وحب الوطن
إني لأبذل انفاسي بلا ثمن
حتى أراك كما اهواك ياوطني
خمسة وسبعون عاما على جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا ذكرى لم تعد للتذكير بموقف انقضى فحسب وإنما أصبحت موقفا تاريخيا يحمل بين طياته دلالات إنسانية عميقة تتجاوز لحظتها الزمانية والمكانية لتعبر نحو حاضرنا ومستقبلنا فسورية أخرجت آخر مستعمر فرنسي محتل عن اراضيها إلا أن قدرها أن تبقى ضمن دائرة الاستهداف من خلال استعمار جديد يحاول النيل من صمودها وقوتها ومنعتها لتستمر قصة اطماع وجشع القوى الاستعمارية لتعود وتقابلها قصص جديدة مشرفة تسير علي خطى من صنع الجلاء وقدموه هدية غالية للأجيال اللاحقة فما بُذلت من أجله الأرواح والدماء لا يُصان إلا بالروح والدم والوحدة الوطنية التي كانت سلاح صانعي الجلاء الاقوى الذي اجبر الغزاة والطامعين على الرحيل وكان الجلاء وفرحة النصر التي نتبادل فيها التبريكات والتهاني كما في كل عيد فكيف اذا كان العيد عيد الوطن كل الوطن حيث يقف المشهد بكل جلالته وعمقه ليزرع غرسة أخرى نحو تحقيق الجلاء الأكبر في استعادة ما يبقى أرض محتلة لتبقى سورية شامخة تحاكي بكل ماتختزنه من تاريخ وحضارة المستقبل القادم بكل إشراق.
اعداد: مجد حيدر