في عالم المشاهير يقال بأن التنازل هو الطريق الأسهل للشهرة، قد لا يكون هذا التنازل جسدياً فهناك ما هو أقذر، أي التنازل الفكري.
أما السياسة فهي ساوت بين المجرم وعظماء الإنسانية من حيث الشهرة، وبمعنى آخر فإن المجرمين كما العظماء كلاهما لا يموت ذكرهم بعد موتهم، فكلّ يذكر بعمله.
مات دونالد رامسفيلد، لم يكن هذا الشخص مجرد وزير دفاع أميركي سابق، بل هناك من يعتبره رجل الظل في الإدارات الجمهورية المتعاقبة والعقل المدبر لحروبها وغزواتها المباشرة كالعراق وأفغانستان، أو غير المباشرة كالحرب اليوغسلافية في القرن الماضي والتي كانت أشبه بحقل ألغام ذكي انفجر ليعرقل مشروع الوحدة الأوروبية.
مات آخر صقور إدارة الإجرام البوشية، في الحقيقة كلهم صقور طالما في هذه الأمة من يصر أن يعيش كـ«أرنب». مات من تسلم يوماً مفاتيح بغداد أهداه شذاذ الآفاق سيف أبي جعفر المنصور ولم يبقوا إلا مخدع نسوة الخليفة، ولعل من سوء حظّهم بأنه لا يجيد الرقص بالسيف، بارعون بالرقص بالسيف وغيرنا يراقصنا بالبارود والنار؟!
بارعون بالرقص على أنغام فتوى اتباع الحاكم ولو كان سارقاً، بتبرير الخيانة بذريعة ليس بالإمكان أفضل مما كان، وغيرنا يراقصنا على جثث أطفالنا ويشرب نخب دمائنا. بارعون نحن بالدعاء على المجرم الذي ذبح ونكّل وخطط ودمر وكأن هذا الصقر لم يكن ليتكئ على ألف خائن، تخيلوا بأن بعض من يعدّد لنا جرائم تلك الإمعة، يعطي صفة المقاومين لمن دخلوا مع دباباته ليمارسوا القوادة السياسية على وطنهم.
مات رامسفيلد والفوضى الخلّاقة التي نظّرت إليها إدارته الجمهورية طبقت بحذافيرها، لكننا للأسف وكعادتنا أدركناها متأخرين، كان واضحاً ما يريده الأميركيون من إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عشية العيد، كان المشهد الدرامي يسير وفق السيناريو المحبوك عندما قرروا قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، حتى وصلنا إلى يوم نجد فيه الفرات يبكي الحنين، واتهامات بالجنون لمن لا يزال يحمل في قلبه «هوى فلسطين»، النيل يناجي «يا موسى»، أخبر والدتك بأن تضع أرض الكنانة في مهد فوق نهرنا الطاهر عسى مياهه الطاهرة تنقلنا وإياها إلى شطّ الأمان فيأتينا رجع الصوت:
يا صاحبيّ السجن إنها العجاف التي لم تتجهزوا لها، أين كنتم عندما بدأ الطير بأكل رؤوسكم؟
كانت أكبر مشاكلنا في هذه الأمة خلاف على مباراة أو متعة عمل درامي، تخيلوا كم كانت مشاكلنا بسيطة؟ اليوم بدل إحصاء قتلى الجنود الأميركيين بتنا نحصي من يهرب من هذا الجحيم المسمى الشرق البائس، عدد الذين يموتون جوعاً وعطشاً وقهراً، باتت أراضينا أشبه بملعب تتصارع عليها وحوش الأرض قاطبةً، تحولنا إلى أعمال درامية يحصد عبرنا الآخرون جوائز الأوسكار ليتبقى لنا صورة الحذاء الذي تلقاه جورج بوش، وتلك الوجوه العفنة لمن يظنون بأن اللـه لم يهدِ سواهم يدعون للحاكم ويدعون على «اليهود والنصارى» الذين يدعمون هذا الحاكم، أي خيبة تعيشها هذه الأمة؟
لكن في الجهة المقابلة لا يبدو بأن علينا التسليم بالنظرة السلبية لكلّ هذا الإرث القذر الذي خلفه رامسفيلد، تعالوا لنقل بأن رامسفيلد كان آخر وزير دفاع أميركي يمتلك دهاء الثعلب وأنياب الضباع، هذه الصورة تتبدى لنا عندما نوسّع الحلقة قليلاً في رؤية آليات الصراع على هذا الشرق كما أرادته إدارة بوش وما تحقق.
في عام 2005 وقف رامسفيلد إلى جانب الرئيس الأفغاني حامد كرزاي ليتهم كل من يتوقع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان بالجاهل، يومها دعّم كرزاي كلام رامسفيلد بالقول «واثقون بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عن أفغانستان»، ربما شاء القدر بأن ينفق هذا المجرم عشية الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الفكرة هنا تندرج في إطار التعاطي مع هذا الانسحاب، فـ«كرازايات» المنطقة يشيعون بأن هذا الانسحاب لا يعني هزيمة أميركية، إذن ماذا نسميه؟
دولة تمثل في الجيوبولوتيك للولايات المتحدة ساحة ضغط على جميع «الأعداء»، وأهمهم الصين وروسيا فلماذا تركتها؟
نبدأ من الصين، فخلال زيارته لها في عام 2005 بدا رامسفيلد مذهولاً من حجم مارآه بما في ذلك زيارته لأكاديمية العلوم العسكرية، يومها عبّـــر على مضض عن سعادته لرؤية الصين المزدهرة، متمنياً أن تلعب الصين دورها المسؤول في الشؤون الدولية.
ظن رامسفيلد بأن بيع الكلام المعسول قد يأتي نفعه مع كل الدول، كأنه يريد القول بأن هذا العالم فيه الولايات المتحدة ودول تحكمها «كرزايات» هذا العصر، لم يكن رامسفيلد يعلم بأن الدولة التي تمنى لها الازدهار باتت قاب قوسين أو أدنى من التربع على عرش الاقتصاد العالمي، ربما نفق ولم يشاهد العرض المهيب بمناسبة المئوية الشيوعية لهذا البلد الذي قرن فعلياً مبدأ الاشتراكية بالرأسمالية دونما خوف من فساد الأولى واحتكار الثانية، ما دامت الدولة قادرة أن تحاسب كل من يخل بهذا التوازن.
لكن النظرة إلى روسيا لم تكن بذات العقلانية، ولعل هذه النظرة يمكن تلخيصها بعبارته الشهيرة التي قالها وهو خارج السلطة عندما وافقت سورية على تسليم سلاحها الكيميائي، يومها هاجم رامسفيلد الرئيس الأسبق باراك أوباما واصفاً إياه بمن «سمح للثعلب بحراسة مزرعة دجاج»، متسائلاً: هل يلتزم الروس بأي من المعايير الدولية حتى نعطيهم فرصة استلام السلاح الكيمياوي؟
لكن رامسفيلد الذي حذر مراراً وتكراراً من أن عدم سقوط «النظام السوري» ونجاته ستعني حكماً بأن الخرائط السياسية للمنطقة ستتبدل مع وصول الروس لم يجب عن السؤال الأهم: لماذا لم يحاول أن يعيد التجربة العراقية مع سورية؟
هو لم ينفِ النية فحسب، لكنه في أحد المؤتمرات الصحفية من الرياض عشية احتلال بغداد وسقوطها نفى أن تكون إدارته قد هددت سورية عبر رسائل غير مباشرة، بل إن كل ما طلبه يومها هو امتناع سورية عن تقديم ملاذ آمن لقيادات النظام العراقي المنهار!
ليصبح السؤال الجوهري:
لماذا استلم مفاتيح جلّ الدول العربية التي أرهبتها القوات الأميركية الغازية بما فيها تلك الصديقة لـ«آل بوش»، واستعصت عليه دمشق؟
الجواب قد يحتاج إلى صفحات وقد نختصره بعبارة بسيطة: تموت الحرة ولا تأكل بثدييها.
مات دونالد رامسفيلد، ولم تزل أميركا ترى العالم بين يديها تركة عليها أن تهذبها كما تشاء، مات رامسفيلد وبداية انهيار كل ما جاؤوا من أجله تلوح في الأفق، بقي هذا الشرق وإن كان بائساً لكن روح الانبعاث قادمة من جديد، فقط قبل أن تعدوا مساوئ رامسفيلد تذكروا كم من «رامسفيلد» من أبناء جلدتنا وبين ظهرانينا.
الوطن السورية