تشهد الساحة التركية جدلا كبيرا هذه الأيام بشأن المفاهيم والمعايير التي ينبغي اعتمادها في المنظومة الأخلاقية والسياسية للدولة التركية.
ولعل ما فجر هذا الجدل، وجعله بندا مفتوحا في النقاشات الداخلية الجارية، ومسارا للشد والجذب بين أنقرة وكل من بروكسل وواشنطن، هو سلسلة الخطوات الأخيرة التي اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، ومن أهمها، انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول لحماية المرأة من العنف بعد أن كانت أول دولة وقعت عليها عام 2011، والتحرك العملي لحظر حزب الشعوب الديمقراطية الموالي للحقوق القومية الكردية، والحديث المتزايد عن إمكانية العودة إلى العمل بعقوبة الإعدام بعد أن ألغت تركيا هذه العقوبة عام 2004 بضغط من الاتحاد الأوروبي، ومن قبل تحويل متحف آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد، حيث تبدو هذه الخطوات وغيرها عكس مسار المساعي التركية منذ أكثر من نصف قرن للانضمام إلى العضوية الأوروبية.
ومع أن الخطوات التركية هذه تقابل بانتقادات شديدة من قبل الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلا أن حكومة العدالة والتنمية لا تعطي أهمية لهذه الانتقادات، بل تمضي في خطواتها بحجج عديدة، من أهمها، ما بات يعرف بـ”معايير أنقرة” في النظر إلى هذه القضايا ومفاهيمها الأخلاقية والسياسية إلى درجة أن هذه المعايير باتت تحل تدريجيا مكان معايير كوبنهاجن الأوروبية التي توعدت تركيا بتحقيقها لنيل العضوية الأوروبية، وضمن هذا السياق وقعت على العديد من الاتفاقيات الأوروبية، خاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان والمحاكم والتعددية السياسية وحماية الأقليات وغيرها. النظرة العامة لهذا السلوك التركي الحكومي تحيلنا إلى جملة من الأسباب التي تدفع حكومة العدالة والتنمية إلى التخلي عن المضي في معايير كوبنهاجن لصالح معايير أنقرة، ولعل من أهم هذه الأسباب:
أولا – تعثر مسيرة انضمام تركيا إلى العضوية الأوروبية لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، وجاءت الخلافات الأخيرة بشأن اليونان وقبرص والمتوسط واللاجئين وغيرها من القضايا الخلافية الكثيرة، لتضع ما يشبه نهاية غير معلنة لأمل تركيا في نيل العضوية الأوروبية، حيث أعلن ذلك صراحة عدد من المسؤولين الأوروبيين.
ثانيا – بُعد أيديولوجي يتعلق برؤية حزب العدالة والتنمية للمجتمع والدولة والتعليم والهوية، فمن قضية الحجاب إلى قضية التعليم الديني، ودعم الجماعات المتطرفة التي ترفع شعار الدين، وصولا إلى الانسحاب من اتفاقية إسطنبول لحماية المرأة من العنف، بدت أن رؤية حزب العدالة والتنمية لا تتوافق مع القيم الأوروبية خاصة في القضايا الاجتماعية والسلوكية رغم عدم وضوح معايير أنقرة من النواحي القانونية والسياسية والدستورية والحقوقية، لكن الثابت أن ثمة أوساطا تركية متشددة باتت تتحدث بقوة عن ضرورة التخلي عن معايير كوبنهاجن والأخذ بما بات يعرف بمعايير أنقرة.
ثالثا – الحسابات الداخلية لاستمرار سلطة حزب العدالة والتنمية في الحكم، إذ من الواضح أن كل خطوة تتخذها هذه السلطة تصب في اتجاه ترتيب البيت الداخلي التركي من جديد، على شكل فرز اجتماعي وأيديولوجي وسياسي ينبغي أن يصب في الصندوق الانتخابي في النهاية، وهو فرز يأخذ طابع الشعبوية تحت الشعارات القومية أو الدينية المتشددة، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى الخطوات الجارية لحظر حزب الشعوب الديمقراطية، إذ إن عين أردوغان على الكتلة الانتخابية الكبيرة لهذا الحزب والتي تقدر بنحو سبعة ملايين ناخب، وهي كتلة كفيلة بضمان فوزه في أي انتخابات مقبلة سواء أكانت مبكرة أو دورية.
أمام هذا المشهد، تبدو تركيا أمام صورتين، صورة الجمهورية العلمانية التي أسسها كمال أتاتورك وسعت إلى الارتباط بالغرب ومنظومته الأمنية والسياسية، وصورة الدولة الشمولية التي بطموحاتها الجامحة، وتحولاتها السياسية والاجتماعية والدستورية.. تريد وضع نهاية تدريجية للجمهورية الأولى وإعلان الجمهورية الثانية كما يجري الحديث عنها في عام 2023، أي في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، ويبدو أن هذا الموعد بات يشكل بوصلة العمل السياسي للرئيس أردوغان حيث موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
في الواقع، بقدر ما كانت معايير كوبنهاجن مسارا لنيل تركيا العضوية الأوروبية فإنها في الوقت نفسه كانت امتحانا لتحقيق الديمقراطية كمفاهيم وممارسات وقيم، فيما تعني معايير أنقرة بمثابة اعتراف غير علني بتعثر هذا المسار، والحلم بالعضوية الأوروبية، والتخلي التدريجي عن معايير كوبنهاجن، وفي كل ما سبق، يتسع حجم الخلافات التركية مع الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، وسط استحضار للذاكرة التاريخية، وهي ذاكرة مليئة بالحروب وصراعات الهوية والمصالح.
العين الاخباري