أقدم عمل موسيقي متكامل تم تلحينه في العالم لم يكن بالحدث العابر في التاريخ، فسورية قبل 1400 عام قبل الميلاد أهدت العالم ” أنشودة العبادة الأوغاريتية”، وهي عبارة عن مجموعة موسيقية تحتوي 36 أغنية، نقشت بالكتابة المسمارية على ألواح طينية أثرية عثر عليها في أوغاريت “رأس شمرا” العمورية الكنعانية بمدينة اللاذقية، وأحد هذه الألواح احتوى كامل كلمات أقدم تدوينة موسيقية “ترنيمة نيغال” آلهة الزراعة.
وخلال البحث عن التجارب والرؤى التي قدمها الموسيقيون السوريون لهذه التدوينة نجد منها مشروع الموسيقي رعد خلف عام 2003، وحمل عنوان “ألواح أوغاريت”، وهي ترجمة كاملة لملحمة “عنات” و”بعل” قدم فيها المخطوط الأساسي لهذا اللحن الأوغاريتي، ليضم فريق إعداد العرض وقتها 140 شخصاً.
والعمل الثاني كان ما قدمه الموسيقي إياد الريماوي عبر مشروع “الرابسودي السوري”، وجاء ثمرة تعاون بين الجناح السوري في إكسبو 2020 دبي كجزء من برنامجه الثقافي والأمانة السورية للتنمية وأجنحة الشام للطيران، وهو أول عمل موسيقي خصص للاحتفال بتاريخ الغناء الجماعي في سورية، وشارك فيه ما يقارب 100 موسيقي ومغن سوري من داخل سورية وخارجها بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان.
وبين هاتين التجربتين كان هناك غناء منفرد “صولو” بتوقيع الريماوي أيضاً، وجاء بصوت شابة سورية في مقتبل العمر ميراي عسكر، وقدم ضمن “القسم المخصص لأقدم تدوينة موسيقية في العالم” بالجناح السوري بإكسبو دبي طيلة فترة المعرض، وهذا الغناء المنفرد لأنشودة نيغال ترافق مع آلات موسيقية جاءت من روح مملكة أوغاريت، حيث كان الغناء والعزف في أوغاريت يترافقان، وكان سكان هذه المملكة يعزفون على الصنوج والقيثارة والناي والطبل والقصبة وآلات أخرى تشبه آلة العود الحالية.
وفي تحليل صوت ميراي خلال أدائها أنشودة نيغال باعتبارها التجربة الوحيدة كغناء منفرد، قال الباحث والموسيقي نزيه أسعد في تصريح لـ سانا: “تمتلك ميراي وضوحاً في انسيابية الصوت، فصوتها مناسب لهذا النمط الغنائي الذي لا يحتاج إلى اهتزازات صوتية أو عرب في تقديم الموسيقا الشرقية، وفي تأديتها الترنيمة ظهر لديها الحالة الشرقية حسب الحاجة إليها، فأعطتها كفايتها بالأداء الشرقي ولم تتعد حدود النمط الغنائي أو السكة المقامية أو الموسيقية التي عملت عليها، لكون هذا النمط يأتي ضمن طبقات موسيقية معينة محدودة المساحة”.
وبين أسعد أن التعامل مع الموسيقا التي رافقت ترنيمة نيغال يجب أن يكون تعاملاً حذراً لأن الموسيقا جاءت كمرافقة بسيطة ولأنه لا يوجد في هذه التجربة الموسيقية توزيع أوركسترالي، فالمغني محكوم بسماع الصوت الموسيقي المرافق الذي يعطيه فقط الإيحاء بالطبقة الموسيقية التي يجب عليه تأديتها، مؤكداً أن ميراي استطاعت أن تصل إلى الحد الدقيق واستلام الطبقة الموسيقية، ومشبهاً صوتها بصوت المغنية اليونانية إيرين باباس خلال تأديتها ملحمة “ميت أوديسا”.
وأوضح أسعد أن النمطية الغنائية الانسيابية تحتاج إلى نفس طويل وعمق في اللحن وفي تنفيذه وإظهار الأحرف مع التآلف مع الموسيقا المرافقة، مضيفاً: “ميراي كانت حذرة في الأداء، واستطاعت أن تمتلك القطعة الموسيقية التي أدتها والتي احتاجت منها إلى تدريب وتحضير كبيرين للوصول إلى هذه المرحلة من الإتقان لتقديم أقدم تدوين موسيقي عرفه التاريخ”.
وللتعرف على ميراي وعلى موهبتها نجد أن حكايتها عبارة عن العديد من المراحل، فابنة 25 عاماً تمتلك العديد من المهارات، فهي عازفة بيانو ومغنية ومدربة صوت ومعدة ومقدمة محتوى متخصص بالصوت، أما دراستها الأكاديمية فقالت في تصريح لـ سانا: “أحب أن يعرفني المتلقي إعلامية، فدراستي الأكاديمية هي الإعلام، فأنا خريجة جامعة دمشق كلية الإعلام عام 2021 تخصص علاقات عامة وإعلان”، مضيفة: “إن الجمع بين هذين المجالين هو بالنسبة لي وسيلة لإيصال الهدف الذي أسعى إليه عبر الكلمة التي تبني وتغير وتطور الإنسان”.
موهبة ميراي في مجال الغناء بدأت منذ أن كانت في عمر 6 سنوات، حيث عمل والداها على صقل موهبتها، وترافق ذلك تعلمها على العزف على آلة البيانو، وفي هذا الوقت انضمت لكورال الكنيسة في منطقتها وانضمت إلى جوقة الفرح.
واجتهادها وتدريبها المتواصل أوصلاها في عمر 12 عاماً إلى تقديم أول أمسية ميلادية لها بحضور كبير، وبناء عليها قامت بتدريب أطفال الكورال لتكون أصغر مدربة صوت، فكانت تعمل على تطبيق كل ما تتعلمه على أقرانها، وتوج عملها في هذه المرحلة بمرافقة جوقة الفرح في جولتها التي قامت بها في فرنسا عام 2016 كمغنية “صولو”، وقدمت مع الجوقة ما يقارب 11 أمسية بمختلف المدن الفرنسية.
حمل المسؤولية بعمر مبكر خلال الطفولة جعل ميراي تتخذ قرار التوقف عن تقديم التدريبات وتتفرغ لتعلم الموسيقا البيزنطية، بينما مكنتها متابعة تحصيلها العلمي وتفوقها الدراسي من اختيار اختصاص يمثل حالة شغف بالنسبة لها وهو الإعلام، بما يمتلكه الإعلامي من شخصية مميزة ومؤثرة في المجتمع، أما مشروع تخرجها فحمل عنوان “العلاج النفسي بالموسيقا في الحروب”.
تعلمها الموسيقا البيزنطية عمل على تمكين موهبتها في الغناء بشكل أوسع لما تتمتع به هذه الموسيقا القديمة والروحية من خصوصية بما تحتويه من تدوين وعلامات موسيقية، فغاصت في عالم الأوزان والألحان،ولعل هذا المجال كان من احدد اسباب اختيارها لتأدية انشودة نيغال وعنها قالت : “إن هذا التدوين هو باللغة الحورية، فكان أداؤها بالنسبة لي في غاية الصعوبة لأن اللغة مختلفة وقديمة وتطلبت الوقت والجهد لحفظ الكلمات وإتقان الأداء الموسيقي الصعب، لوجود علامات بسيطة وأبعاد دقيقة وتركيز عال بالاستماع، مع وجود معان عميقة للكلمات لكونها حالة ابتهال لسيدة لا تنجب الأطفال، فهذه الأنشودة بكاملها هي حالة روحية”، مضيفة: “هذه التجربة المهمة حملتني مسؤولية كبيرة وأنا بعمر 20 عاماً أن أمثل وطني بصوتي عبر أقدم تدوين موسيقي في أهم الاحداث العالمية ليصل الإحساس بهذا التدوين القادم إلينا من زمن بعيد”.
لم تتوقف مشاريع ميراي رغم العديد من الصعوبات التي واجهتها، ومنها فقدها صوتها في مرحلة دقيقة من حياتها لتعمل على معالجته واتخاذ قرار إنشاء محتوى رقمي لتعليم الموسيقا وتدريب الصوت وضخ المعلومات عنه، معتبرة أن جميع التجارب التي مرت بها كانت سبباً لتقديم هذا المشروع إيماناً منها بأهمية الصوت لكونه بصمة تميز كل إنسان، بالإضافة إلى عملها على مشروع جديد وهو لعبة فكرية بصيغة أسئلة تفتح نقاشات عميقة تفيد الأفراد والمجموعات لمعرفة أنفسهم ومحيطهم بشكل أفضل.
وتؤمن ميراي أن كل إنسان بداخله رسالة يجب عليه تأديتها، داعية الشباب انطلاقاً من تجربتها إلى الإيمان بأنفسهم والعمل بالمجالات التي يحبونها وأن يجدوا بالمحن والظروف القاسية التي تعترضهم فرصاً تخلق لهم واقعاً جديداً.