مشاهد من غزة بعد التهدئة… نازية الاحتلال مقابل التمسك بالحياة

في قطاع غزة وقبل 50 يوماً كانت هناك منازل ومدارس ومستشفيات ومحال تجارية ومساجد وشوارع تضج بالحركة والحياة، واليوم تحول كل ذلك إلى ركام، لم يبق حجر فوق حجر، والخراب بات صفة جميع الأحياء والشوارع في معظم مناطق القطاع وخاصةً وسطه وشماله.

أن تقف حائراً تبحث عن الطريق الذي يوصلك إلى أنقاض ما كان منزلك، وجه آخر للمعاناة في القطاع، فعدوان الاحتلال الإسرائيلي دمر كل المعالم.

يلملم أهالي القطاع جراحهم، يبحثون عن جثامين أحبة استشهدوا وظلوا تحت الأنقاض أو في الشوارع لدفنهم، عن ملابس لعائلاتهم تحت الركام، عن بقايا صور وألعاب، أقلام ودفاتر وكتب، ويؤكدون رغم الألم أنهم باقون على أرضهم وسيعيدون تعمير ما دمره الاحتلال.

نيران الاحتلال التي استهدفت القطاع براً وبحراً وجواً منذ السابع من تشرين الأول الماضي، واستمرت بلا توقف طيلة 48 يوماً، سوت أحياءً سكنيةً بأكملها بالأرض، من الرمال وتل الهوا والشيخ عجلين ومحيط مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة إلى جباليا وبيت لاهيا وبئر النعجة وبيت حانون شمال القطاع، وخان يونس جنوبه، ومخيم الشاطئ غربه، آلاف البيوت تحولت إلى أثر بعد عين، ما بقي منها واقفاً ما هو إلا هيكل لا يصلح للعيش، غبار ورماد في كل شبر، ورائحة الموت تملأ المكان.

مشاهد أفظع مما خلفته الحرب العالمية الثانية، كشف عنها اتفاق التهدئة المؤقتة الذي دخل حيز التنفيذ في السابعة من صباح أمس، بعد 48 يوماً من العدوان الذي استخدم فيه الاحتلال أطناناً من المتفجرات تعادل ثلاث قنابل نووية بما فيها الأسلحة المحرمة دولياً، محولاً القطاع إلى مقبرة جماعية لآلاف الفلسطينيين، وليدفن تحت أنقاضه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بينما لم تبادر الدول التي تدعي رفع راية الدفاع عن تلك الحقوق، إلى الدفاع عنها وحماية الفلسطينيين، بل كانت أول من يغتال حقوق الإنسان بدعمها الاحتلال في عدوانه.

في الساعات الأولى للتهدئة المؤقتة توجه عشرات آلاف النازحين الفلسطينيين إلى أحيائهم، رغم رصاص الاحتلال الذي انهمر عليهم من جميع الجهات، لمنعهم من تفقد منازلهم، وخاصةً في المناطق التي توغلت فيها قوات الاحتلال براً، وعند وصولهم اكتشفوا حجم الكارثة والجرائم والدمار الهائل، حيث وجدوا أحياءً سكنيةً كاملةً تضم مئات المباني وعشرات آلاف الوحدات السكنية مدمرةً بشكل كلي، إضافةً إلى دمار هائل لحق بالطرق ومباني المؤسسات الخدمية والبنى التحتية وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات، كما عثروا في طريق عودتهم إلى منازلهم على جثامين عشرات الشهداء، كانت متحللةً ، ما يشير إلى استشهادهم قبل أسابيع بسبب عدم تمكن الأهالي من دفنها جراء شدة قصف الاحتلال الذي لم يستثن أي شيء في القطاع.

ويوضح أحد أبناء جباليا شمال القطاع أنه صدم عندما اكتشف أن منزله الذي تركه سليماً قبل نحو أسبوعين، عندما نزح إلى شرق غزة، قد دمر تماماً، قائلاً: خرجت صباحاً مشياً على الأقدام من إحدى المدارس التي كنت فيها مع عائلتي في حي التفاح، وبعد ساعتين وصلت لأكتشف أن منزلي مدمر بشكل كامل، كما عثرنا على جثامين شهداء هم أفراد عائلات حاولوا النزوح من المنطقة قبل أيام، واستهدفهم الاحتلال بقذائف المدفعية والطيران.

وتقول سيدة فلسطينية من مدينة غزة وهي تذرف الدموع: كل بيت في غزة انتكب، أولاد خالي ما زالوا تحت الأنقاض إلى الآن، ولا نستطيع إخراجهم، والمشهد واحد في كل أنحاء القطاع، فالاحتلال اتخذ قراره بتدمير كل مقومات الحياة في القطاع وبطمر قاطنيه تحت الركام أو تهجيرهم، مشيرةً إلى أنه إذا تمكن الاحتلال بسبب تخاذل المجتمع الدولي من ارتكاب مئات المجازر بحق آلاف الفلسطينيين، وتدمير جزء كبير من القطاع، فإنه لن يستطيع تهجير الأهالي من أرضهم، فهم باقون عليها إلى أبد الدهر، أما الاحتلال فهو الزائل

المكتب الإعلامي في قطاع غزة كان أعلن أن العدوان الإسرائيلي على القطاع دمر 46 ألف وحدة سكنية بشكل كلي و234 ألفاً بشكل جزئي، وهذا يعني أن أكثر من 60 بالمئة من الوحدات السكنية باتت غير صالحة للسكن، بينما أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن نحو مليون فلسطيني في غزة يبحثون عن ملجأ أممي، وهو رقم يفوق طاقة ملاجئها الاستيعابية، ما يضطر أعداداً كبيرةً للنوم في العراء أو ساحات المدارس أو الشوارع.

رغم حجم المعاناة والكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة جراء تقاعس المجتمع الدولي عن وقف العدوان الإسرائيلي، إلا أن المقاومة الفلسطينية نجحت بإفشال ما سعى الاحتلال لتحقيقه، وهو تهجير أهالي القطاع والقضاء على المقاومة لتمرير وتنفيذ مخططاته الخبيثة، فأن تقاتل من أجل حقك في الحياة فهذا هو النصر بعينه، وهذا ما جسدته المقاومة منذ اليوم الأول للعدوان الذي لم ينته بإعلان التهدئة المؤقتة، أما الوحشية فهي أن تنشر الموت والدمار وهذا ما فعله الاحتلال.