بقلم الدكتور إسماعيل مكارم
في ليلة من ليالي الشتاء الطويلة
جاءَني في المَنام
ذلك الوَلدُ ، الذي حياته
جزء من حياتي
وإسمه هو إسمي
جَلسْنا على مَقعَدٍ
قالَ : وماذا حَققتَ ؟
قلتُ : القليلَ.
تذكرَ الوَلدُ حِكاياتِ العَجائِز العَجيبة
وتلك السّنينَ العِِجاف
وفقدانَ الوالدين المُبكر…
كأنّ غُرابا أسود جاءَ ضيفا إلى تلك الدّار
كانَ الجُوعُ رفيقا للطفولةِ
كانَ الوَلدُ حينها هزيلا شاحِباً
وكانتِ الضيعة كلها تبحَثُ عن الرّغيفْ
غير أنَّ إرادة الحياةِ انتصرَتْ
ثم كبُرَت مثل بنت الحكاية..
أخذتْ من البازلتِ قسوته
ومن النسيم طراوته
ومن القمر ضياءَه
كانَ على إرادةِ الحَياة تلك
أن تبنيَ الحُلمَ ، وتؤمِنَ بالحِكاية
غادَرَ الولدُ تلكَ الضَيعَة
قادماً إلى المَدينة
تلك المَدينة لم تخذلهُ
ولم تسْرقْ أحلامَه
بل أهدته كِتاباً وسِراجا
كبُرَ الولدُ وأصبح الكِتابُ صَديقهُ
وأضاءَ السِّراجُ له دَربَهُ.
هَديلُ الحَمام
كان يَبعث فيه المَسرّة
ضوءُ القمر
كان يَمنحُه رّقة الإحساس
أصدقاءُ الطفولةِ
كانوا يبادلونه الصّدقَ بالصّدق
والوفاءَ بالوفاء
سَيفُ جَدِّه ، والحَرْبَة ، وذلك السَّرجُ
والجُنودُ المارونَ بقربِ المَدرسَة
رَسَموا في صَدره روحَ الرّجولةِ
ومَحَبّة الوطنْ.
تعلّم الوَلدُ الصّبرَ والتماسُكَ
من صُخور الجبال الصّلبة
تعلمَ العَطاءَ والكرَمَ
من مواسِم الحُقولِ
تعلمَ المَحَبّة َ، وطيبة الرّوح
من كروم التين والعِنب.
كان الولدُ يُحِبُّ دفء الصَّّباح
ويراقِبُ بشغفٍ مَنظرَ الغروبِ
في أيام الصّيفْ.
وكبُرَ سِربٌ من الأصدقاء
أحلامُهُم كما قِمَمُ الجبال عالية
أرواحُهم كما الثلجُ صافية ، نقية
دروبُهم صَعبة وبَعيدة.
**
قالَ : سَنواتٌ طويلة…
وتقولُ – القليلْ.
قلتُ: إذا كان الأمرُ لأجل الآخرين
فقد تحَققَ الكثيرَ
إذا كان الأمرُ لأجل روحي وروحِكَ
تحَققَ القليلْ.
قال: في المِعرفة ؟
قلتُ: إذا كنتَ تعني
المهنة ، والأضواء ، والمَجلات..
هذه كلها للآخرين
ليسَتْ لِروحي ، ليسَتْ لِروحِكَ.
سألَ : وما هذا القليلُ ؟
قلتُ: كنتُ وفيّا تجاهَ ابنتي
كنتُ صادِقا حين وَعَدْتُ
لم أنثن ِ يَوماً
أمام إرادةِ قدَري وَمَصيري..
ما خُنتُ يوماً بَلدي ، أوأصدِقائي
حافظتُ على العََهدِ مع الخالِق
ما نكرتُ يوماً وجودََهُ بقربي.
قالَ: وماذا لم يَتحَققْ ؟
قلتُ: العيشُ في الوطن ولأجلِه،
العَمَلُ بين الأهلِ ولأجلهم،
رؤية ُ شمس الصَّباح ،
وتوديعُها حين تذهَبُ للمغيبْ
هناكَ – في ضَيْعَتِنا.
غادَرني ذلك الوَلدُ قائِلا:
لا تحزنْ ، لنا لقاءٌ آخَرُ.
***************
كراسنودار – 25/ 11/ 2020
