القدود الدينية… الحكاية الرابعة

قال الراحل الكبير صباح فخري عن القدود الدينية “موضوعها يمس أوتار القلب وترقي الذوق دندنة أنغامها.. أما البحث في محتواها فيحتاج إلى جهد كبير نظراً لصعوبة تحقيق نصوصها ودقة تدوين ألحانها.. هذا النموذج الذي يعتز به التراث السوري وهي منه في موقع الصدارة إلى جانب الموشح والموال والقصيدة المرتجلة”.

بدأت حكاية القدود الدينية عندما انتقل تراث حلب الموسيقي من جيل إلى جيل مشافهة حتى مع ظهور الكتب المتخصصة لاعتقادهم أن الغناء فن سماعي لا يؤخذ إلا من فم المعلم حصراً كما التراث العربي حيث انتقلت هذه القدود بالتواتر ووصلت إلينا بحرفيتها أو قريبة من الأصل.

ولعبت حلقات الذكر وزوايا الطرق الصوفية بحلب دوراً مهماً في انتشار القدود الدينية ونشأت فيها فرق الإنشاد وهي عبارة عن مجموعة من المنشدين “ريس الذكر والأجنحة والمعاونين”.

ومن أشهر الأماكن في حلب أيضاً كان بيت الشيخ عمر البطش ملحن الموشحات الأشهر 1885-1950 وهو من منشدي الزاوية الهلالية فكان داره يشبه صف الدراسة حيث كان تلامذته ينقسمون إلى مجموعات لكل منها وقت خاص بها يتعلمون منه الموشح أو التوشيح الديني أو القد أو الدور.

واجتمع لدى الشيخ البطش في مجموعة واحدة مشاهير المطربين والملحنين وراقصي السماح وهم صبري مدلل وعبد القادر حجار وبهجت حسان أما الحاج صبحي الحريري الذي كان ريسا ًلأكثر من حلقة ذكر في حلب وأهمها الزاوية الهلالية فعرف عنه بمساعدته لكل محب للغناء فأخذ بيد من جاء إليه وشجعه ودربه وزوده بعلوم المقام والإيقاع.

وعلى يد صبحي الحريري من احترف الغناء وتوجه إلى المسرح ليغني بمرافقة التخت الفرقة الموسيقية ومنهم تلميذاه محمد خيري وعبد الرحمن عطية اللذان صارا من كبار مطربي حلب.

وللوقوف أكثر عند تفاصيل القدود الدينية بين الموسيقي محمد قدري دلال في كتابه (القدود الدينية) وهو بحث تاريخي وموسيقي في القدود الحلبية أن القد لحن يغنى بنصين أحدهما زجلي باللغة المحكية والثاني شعر فصيح ويكون موضوع الأول غزلياً والثاني فصيحاً دينياً.

أما الأشكال التي يصاغ عليها القد الديني فأشار قدري دلال إلى أنها ثلاثة الأول نص لحني من الموسيقا الآلية والثاني نص شعري ديني بالفصحى على زجل أو العكس نص شعري ديني فصيح على آخر مثله أما الثالث فهو نص ديني بالفصحى على نص مثله في قالب الموشح.

وعن الشكل الأول أوضح قدري دلال أن أهل حلب من شدة حبهم للموسيقا والغناء لم يقتنعوا بالنصوص الزجلية أو الشعرية الفصيحة فعملوا على قدها نصوصاً أخرى بل تخطوها إلى الألحان الآلية ولذلك فإن أعجبوا بلحن منها أوجدوا نصاً شعرياً يحاكي التقطيع اللحني والإيقاعي لذلك المؤلف وراحوا يرددونه وهم بهذا يستغنون عن غنائه بطريقة الصولفيج وهذا اللون يحتاج الى شاعر ملم أو عالم بالموسيقا والإيقاع ليحاكي اللحن بألفاظ لغوية شعرية.

أما خصائص القدود الحلبية الدينية أو الغزلية فهي السهولة وأصلها أغان شعبية سهلة اللحن تصلح لجميع المناسبات والاحتفالات في حين أظهر قدري دلال الصلة بين القد الديني وغير الديني حيث بين وجود علاقة تبادلية بين الوجهين إذ يمكن أن يكون لدينا نص شعبي غير ديني يصاغ عليه قد ديني والعكس صحيح.

ومن أشهر شعراء القدود الدينية السورية الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الذي توفي 1720 وهو شاعر متصوف وملحن عبقري عالج كل أشكال الإنشاد الديني حيث أن كثيراً من ألحان المسجد الأموي بدمشق تنسب إليه ومنها لحن الأذان الجماعي وأذان الإمساك المشهور والمسموع إلى يومنا هذا.

ومن الشعراء أيضاً الشيخ عمر اليافي ويوسف القرلقلي والشيخ الحمصي أمين الجندي والشيخ أبو الهدى الصيادي ومحمد النشار ومن الشاعرات عائشة الباعونية الدمشقية أم محمد التلاوية وغيرهم الكثير.

وفي كتاب القدود الدينية وثق ما يقارب 129 قداً دينياً ودنيوياً وعرض قدري دلال نصوصها وبعضاً من سيرتها مبيناً العلاقة بينها وكيف صاغ مطربون ومغنون معاصرون أغانيهم وألحانهم على منوال هذا القد أو ذاك ومسطراً ألحان ومقامات هذه القدود وإيقاعاتها.

ومن القدود الدينية (أبا الزهراء نبياً) من مقام راست و(اجعل زمانك كله أفراح) مقام جهار كاه و(الحب في صدق النية) مقام أوج عراق وقد (الكون أضاء منك) مقام عجم و(أنت نسخة الأكوان) مقام هزام وقد (يا إمام الرسل سندي- مقام بياتي ويا غزالي كيف عني أبعدوك) مقام حجاز أصفهان.

سانا