إذا أردنا أن نعرِف خلاصةَ ما جرى في قمةِ الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين التي عقدت في موسكو، علينا أن ننتظر الزيارة التي سيقوم بها رئيس النظام التركي رجَب طيب أردوغان إلى موسكو قبل نهاية هذا الشهر.
بدا فلاديمير بوتين سعيداً ليسَ باستقبال الرجل الذي دفنَ أحلام الإسلام السياسي وإرهابييهِ إلى الأبد فحسب، لكن لأنه كانَ ولايزال يحمل لقبَ الرئيس الوحيد، خصماً أو حليفاً، الذي زارَ أو استقبل الرئيس بشار الأسد، ربما لأن المواقف تحتاج للرجولة قولاً وفعلاً.
حُكي الكثير قبل هذهِ القمة عن برودٍ في العلاقة بينَ الحليفين، هناك من تحدث عن «شبهات» من الدور الروسي في منع الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، أو «تقاعساً» من الحليف في دعم سورية بأزمتها الاقتصادية وصولاً إلى ما يسميهِ البعض امتعاضاً روسياً من أهداف الوجود الإيراني في سورية، وغيرها من التُّرهات التي تجد لها مكاناً في حاوية الإعلام الالكتروني، تحديداً إن القمة بهذا التوقيت بدَت وكأنها استندت إلى عدةِ معطياتٍ جديدة:
أولاً: حال اللاتوازن التي يعيشها الأميركي
تبدو التركة التي ورثها الرئيس الأميركي جو بايدن هي أسوأ بكثيرٍ مما كان يُحكى، القضية هنا لم تعد مجردَ انسحابٍ مهين من أفغانستان ولا ببرود العلاقة مع أفضل حلفاء دول الخليج أي المملكة العربية السعودية، وصولاً إلى لجوء الأميركي ذات نفسه للتحايل على قانون قيصر لأن ديمقراطية العم سام تمنع الرئيس بايدن من تعليق العمل به، القضية وصلت إلى حد الانكفاء الأميركي في التحالفات التقليدية لينخرط بتحالف الناطقين بالإنكليزية، أميركا وأستراليا وبريطانيا، الأمر الذي دفع بالعلاقة الأميركية الفرنسية مثلاً نحو الحضيض وجعلت الإعلام الفرنسي يشن هجوماً لاذعاً على تسبب هذا التحالف الجديد بإلغاء صفقة بيع غواصات نووية فرنسية لأستراليا، لكن على الفرنسيين قبل ذلك أن يسألوا أنفسهم: هل تجاوزوا الخط الأحمر الأميركي في العراق عبر شركة توتال بوساطة إيرانية؟
لحظة الوهن تلك بدت كأنها تعيد الولايات المتحدة إلى فكرةِ تضييق التحالفات أكثر، وقد ينتهي بها الأمر إلى خطاب الرئيس السابق دونالد ترامب عن الانكفاء والتوجه نحو الداخل الأميركي.
ربما ولنكن منصفين علينا ألا نحمِّل الرئيس بايدن وزرَ كل هذهِ التخبطات، لأنه عملياً لم يكن له يد فيها. حال الترهل تلك لم يتلقفها فقط خصوم العم سام، بل يبدو كأن الإدارة الأميركية ذات نفسها قد تلقفتها بطريقة تصنع منها حدثاً أميركياً لا العكس، فهل يكون الملف السوري جزءاً منه انسحاب أميركي يعوِّم فرضية خروجها بكرامة؟
ثانياً: قبول إسرائيل ضمنياً بعودة الولايات المتحدة لاتفاق نووي مع إيران
كان لافتاً أن يعلن الكيان الصهيوني بلسان رئيس وزرائه عن قبول فكرة توصل المجتمع الدولي لاتفاق نووي بين إيران، هذه الموافقة في ظاهرها هي حكماً رسالة إيجابية لجميعِ الأطراف، بل تزيل عن الأميركي حملاً ثقيلاً كان يمنع أي تقدمٍ في المفاوضات، وقد تكون هذه الموافقة تكتيكاً إسرائيلياً للخروج من الواجهة كمعرقلٍ رئيسي لهذه المفاوضات، لكن واقع الأمر لا يشي بذلك لأن الإسرائيلي لا يبدو في علاقته مع الأميركي مضطراً لهكذا مناورة.
أما في باطنِ هذهِ الموافقة فيبدو الإسرائيلي مقتنعاً أن حصار الملف النووي الإيراني عبر الاتفاقيات هو خير وسيلة لدرءِ مخاطره، أما برنامج الصواريخ الباليستية فالكيان يعي قبل غيره بأن استخدام هكذا سلاح لن يكون إلا في مواجهة شاملة ومفتوحة، وهي تبدو واقعياً أبعدَ من الثقب الأسود. الموافقة الإسرائيلية على عودة المفاوضات تعني كذلك موافقة الكثير من الدول التي كانت تشاطر الكيان هذا الرفض عن تحالفٍ أو عن تخوف منطقي من الطموحات الإيرانية، ما يعني عملياً أن الطريق باتَ معبداً للجم هذه العرقلة، بل يذهب بالعلاقة الإيرانية الخليجية مثلاً نحو الكثير من التطبيع.
ثالثاً: سورية حاجة لكل الملفات العالقة
هي واسطة العقد، هكذا باختصار يمكن توصيف موقع سورية حالياً من كل الملفات الموضوعة على الطاولة. هذا الكلام يجب أن يقتنع به أولئك الذين مازالوا يعيشون أوهام عام 2013 عن أيام النظام المعدودة.
خلال القمة السورية الروسية نقل بعض المسؤولين الروس تخوفات أميركية من العدوان الإسرائيلي المتكرر على سورية، هذه التخوفات حكماً مرتبطة بنتيجتها على المدى الطويل وانعكاسها على الملفات قيد الطي. يُدرك الأميركي قبل غيره بأن العودة إلى ما قبل عام 2011 حاجة إسرائيلية أكثر ما هي حاجة سورية من مبدأ أن السوريين لم يعد لديهم ما يخسرونه، لكن الإسرائيلي لا يبدو كذلك رغم كل الغارات التي كانت بجلها استعراضية لا أكثر. الحاجة إلى سورية لحل الملفات تفرض على الجميع عدة التزامات من بينها الحوار مع دمشق بما يحفظ سيادتها ضمن القوانين والأعراف الدولية وبمعنى آخر: سورية لم تضع يوماً شرطاً يعرقل آليةَ حوارٍ لأي ملف خلافي ضمن الحدود آنفة الذكر، وما حدثَ مؤخراً من موافقة على مرور الغاز والكهرباء عبرَ أراضيها إلى لبنان يثبت هذا التوجه.
على هذا الأساس بدت القمة كأنها تضع النقاط على الحروف في الكثير من الملفات، وليسَ عن عبث تحدث الرئيس بوتين في القمة عن «ثقة الناس بدور الرئيس الأسد في إعادة الإعمار»، هي رسالة غير مباشرة بأن مستقبل سورية رسمه أبناؤها عبر تجديدهم الثقة برئيسهم وهذه الثابتة لن يستطيع أحد العبث بها، أما المستقبل السياسي بما فيها التعديلات الدستورية فهي قابلة للنقاش من دون تحفظات مسبقة طالما هذا الحوار سوري سوري، لكننا نبدو أمام تساؤلينِ مهمين:
أولاً: ماذا عن مصطلح القوات الأجنبية؟
قبل أيام من القمة أثارت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن خشيتهِ من تحول سورية إلى نقطة هجوم على دول الجوار، يقصد إسرائيل، الكثير من التساؤلات، هل هي عودة للانزعاج الروسي من الوجود الإيراني في سورية؟ لكن كلام الرئيس فلاديمير بوتين في القمة كان واضحاً، هو تحدث عن تلك القوات القادمة من دون قرار لمجلس الأمن أو من دون إذن رسمي من الحكومة السورية، وهذا لا ينطبق على الوجود الإيراني في سورية.
لكن بكل الأحوال على البعض ممن يضيعون وقتهم في هكذا تحليلات أن يتذكروا بأن روسيا لم تقل يوماً بأنها قادمة لتحارب إسرائيل، وهي لم تمنع أبداً أي ردٍّ سوري على الاعتداءات الإسرائيلية، بل على العكس كانت تنشر عن تمكن المضادات السورية من اصطياد الصواريخ. النقطة الثانية إن الروس هم أكثر من يعرف حجم الوجود الحقيقي الإيراني على الأراضي السورية والذي يكاد لا يذكر، لذلك بدت هذه الأسطوانة مشروخة ولعل ما تفكر بهِ القيادة السورية أبعد بكثير مما يفكر بهِ من لا يرون أبعدَ من أنوفهم، لم نسمع قط عن دولة تمتلك بيدها ورقة رابحة وهناك من يطالب بحرقها لأنهم فقط يرون بأن الوجود الإيراني هو ما يتسبب بالغارات، ويثقون بالرواية الكاذبة للعدو عن استهداف «قوات إيرانية»!
ثانياً: هل التعاون مع تركيا ممكن؟
قبل أسبوع من القمة سرَّبَ إعلام النظام التركي خبراً عن لقاءٍ سيجمع رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك برئيس جهاز المخابرات التركية هاكان فيدان، سورية سارعت لنفي الأمر واتهمت النظام التركي بالكذب.
هذا التسريب التركي يوحي لنا بأن هناك سعياً تركياً لعقد هكذا لقاء لكن شروطه السورية لم تكتمل، وبذات الوقت يعكس الحال الذي وصلَ إليه النظام التركي تحديداً أن مطالبات الانفتاح على دمشق باتت شبه يومية، لأن هناك من يدرك حتى من ضمن قيادات العدالة والتنمية حجم الكارثة التي اقترفها النظام التركي عندما منح الإرهابيين بكل المسميات خزاناً بشرياً على الحدود التركية، على هذا الأساس تبدو فكرة لقاء مملوك ـ فيدان تالياً للقاء بوتين – أردوغان أمراً وارداً إن تحققت الشروط السورية، هل سيفهم أردوغان بأن زمن المماطلة انتهى وأن رحى الحرب على الإرهاب ستعود للدوران قريباً؟ تحديداً أن ملف الجزيرة السورية سينتهي بانتهاء الوجود الأميركي أما الحوار السياسي مع القوى السياسية هناك فإن القيادة السورية جاهزة للاستماع إلى كل الطروحات طالما أنها تحت سقف الوطن وعلمه.
الجواب ليس لدينا الجواب عند من لا يزال يحلم بالصلاة في الجامع الأموي، عليهِ فقط أن يتذكر بأن ما قبل قمة الرئيسين الأسد- بوتين، ليس كما بعدها!
الوطن السورية