برهان علوية رحل من عزلته المختارة إلى مكان أفضل … تسعة أفلام و«كفر قاسم» بتأثيره وصدقه يبقى العلامة الأهم في تاريخه

ابتعد عن الإعلام شيئاً فشيئاً، واختار البقاء مستكيناً إلى مرضه الذي حاربه لسنوات، مستسلماً للزهايمر الذي احتل عقله، لينسى معه شغفه بالسينما أولاً ومن ثم لكل من يحيط به، إنه المخرج السينمائي اللبناني برهان علوية الذي غادرنا إثر أزمة قلبية حادة في العاصمة البلجيكية بروكسل. غاب علوية عن ثمانين سنة، وتسعة أفلام بين وثائقية وروائية، شارك خلالها مع رفاق ينتمون إلى جيله في تأسيس السينما اللبنانية الجديدة. في عام 2007 أنجز علوية فيلمه «خلص»، وكان هذا الفيلم آخر أعماله، وآخر رسالة يوجهها إلى جمهوره اللبناني وخاصة حول الحرب اللبنانية والمجهول الذي تذهب إليه البلاد.

من السيرة

ولد برهان علوية في بلدة أرنون عام 1941، تلقى دروسه الأولى في بلدة عين الرمانة التي شهدت انطلاقة شرارة الحرب الأهلية عام 1975. عمل مصوراً مساعداً في تلفزيون لبنان. ثم درس في الجامعة اللبنانية العلوم السياسية، وبعدها اتجه في رحلة إلى مصر، ثم إلى الكونغو والسودان، وعاد إلى بيروت عام 1967، ليغادر من ثم إلى باريس بعد وقوع حرب «الأيام الستة» أو ما يعرف بـ«نكسة حزيران».

في عام 1973 أخرج فيلماً قصيراً بعنوان «ملصق ضد ملصق»، وقدم فيلماً آخر بعنوان «فوريار» في بروكسل، بعد التحاقه بـ«المعهد الوطني العالي لفنون العرض وتقنيات البث». أما فيلمه المهم الأول الذي عد بمنزلة تحفة أولى فأنجزه عام 1975 بعنوان «كفر قاسم» من إنتاج المؤسسة السورية العامة للسينما، والذي عرف نجاحاً كبيراً ورسخ اسم راحلنا في السينما الجديدة حاصداً جوائز عربية وعالمية.

ألا يكفي أن يكون الله مع الفقراء

في حزن بالغ تحدث عن رحيل برهان علوية، الإعلامي والناقد السينمائي نضال قوشحة، مشدداً على القيمة الكبيرة للمخرج السينمائي الراحل في تأسيس السينما اللبنانية، وخصوصاً على حدّ تعبير قوشحة بأنه مخرج ينتمي إلى جيل يسعى لتحقيق القيمة الفنية العالية والرسالة الخالدة في الأعمال الفنية المقدمة للجمهور، مضيفاً: «الله يرحم برهان علوية، فهو من أهم الأسماء في الساحة اللبنانية والعربية على حد سواء، لكونه ينتمي إلى جيل لم يحب السينما بالصيغة التجارية، كفن ينتج مالاً أو شهرة، بل علوية الذي غادرنا منذ يومين، ينتمي إلى جيل السينما، الأخيرة التي تعني لهم مشروعاً فكرياً ووطنياً، وبأن الفن السابع قادر على تحقيق مشاريع وطنية على الأقل من الناحية الفنية، لذلك اتجه إلى تنفيذ أفلام أغلبها يحمل طابعاً وثائقياً».

تنوعت طبيعة الأعمال التي قدمها برهان علوية بين الروائية الوثائقية والروائية ذات الطابع الإنساني، وهنا يقف الناقد نضال قوشحة في الحديث عن الفيلم الوثائقي وهو «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978)، والذي جاء بعد زيارة علوية إلى مصر في نهاية السبعينيات، حيث التقى المعماري الشهير حسن فتحي، وصوّر جولة في العوالم المعمارية المتنوعة في البلد، مركزاً على ما يعرف بـ«عمارة الفقراء» ومظاهرها الاقتصادية والاجتماعية. وهنا يتابع قوشحة «بعض أفلامه اتسمت بنوعية خاصة تحمل بعداً إنسانياً، مثلاً في أحد أفلامه تحدث عن معماري الذي كان له دور مهم في العمارة في مصر. وهنا سلّط الضوء على توجهه الاجتماعي بالاهتمام بالفقراء».

وأخيراً ختم نضال قوشحة حديثه بالتركيز على فيلم «كفر قاسم» من إنتاج المؤسسة العامة السورية للسينما في عام ١٩٧٤، وليس كما تقول بعض المراجع بأنه تم إنتاجه في عام ١٩٧٨. مشيراً إلى أن الفيلم روائي طويل، يتحدث عن المجزرة التي حدثت في قرية كفر قاسم، من الاحتلال الصهيوني حين عودة الأهالي من عملهم « هذا الفيلم هو أحد أهم الأفلام سواء للسينما السورية أم للسينما الخاصة ببرهان علوية، إذ حقق أربع جوائز في رصيد المؤسسة كمنتج وعلوية كمخرج، منها جائزتان في قرطاج (التانيت الذهبي)، وواحدة في موسكو روسيا. وأخيراً أذكر هنا بأن برهان علوية بقي لمدة عشرين عاماً يصارع المرض وهو مقيم في بلجكيا التي توفي فيها، وعلوية سينمائي صاحب مشروع، يرحل وهو لم يحقق من أحلامه وأفكاره ما خطط له، فما نفذه هو أقل، وفي رحيله أقدم التعازي الحارة لكل السينمائيين العرب».

كفر قاسم

برحيل المخرج السينمائي برهان علوية، يعود فيلم (كفر قاسم) إلى الساحة في حديث المواقع الإعلامية، وفي هذه المناسبة يتوقف الناقد والإعلامي سعد القاسم بحديثه عند هذا الفيلم قائلاً: «إثر شيوع خبر رحيل برهان علوية تحدث أكثر من موقع إعلامي عن (الفيلم الوثائقي كفر قاسم)!! رغم الفارق الشاسع بين الفيلم الذي يسجل بدقة بحثية كل التفاصيل المتعلقة بحدث ما، أو موضوع ما، وهو ما يوصف بالعمل الوثائقي. وبين الفيلم السينمائي الذي يقدم لموضوع من خلال رؤية لصانعيه قد تسلط الضوء على جانب أو جوانب فيه، أو تضعه في إطار حدث أشمل. وهو ما فعله (كفر قاسم). لقد قاد هذا الالتباس منشئ صحفي قبل ست سنوات لينشر في وسيلة إعلامية (عربية) حريصة على تشويه الثقافة العربية وتسفيه منجزها، ما توهم أنه مقالة نقدية تلتقط الأخطاء التوثيقية في فيلم (كفر قاسم) الوثائقي، فاكتشف مبهوراً أن الفيلم لم يشر إلى أن العرس في كفر قاسم يعتبر ناقصاً إن غاب الفستق المملح!.. وأن الفلافل تحضر يومياً على المائدة الرمضانية!!.. طبعاً لن أتوقف عند كل الملاحظات السخيفة التي تضمنتها (المقالة النقدية) فالمقام أجل من ذلك. لكني أردت الإشارة إلى ما يلحقه الفهم القاصر، والقوالب الحمقاء، والرؤية الضحلة، من ضرر بالعمل الإبداعي، وبالمتلقي بآن معاً».

وعن الجوانب والرسائل التي بعث بها الفيلم تابع الناقد قاسم بالحديث عن أبرز المضامين «(كفر قاسم) الذي كتب قصته عاصم الجندي (1933 – 2001)، وتشارك مع برهان علوية في كتابة السيناريو. ينطلق من المجزرة التي ارتكبها الجيش الصهيوني بحق أبناء البلدة العُزّل، لا ليوثقها فحسب، وإنما ليعرض الوضع الحياتي لأبناء البلدة تحت الاحتلال، واضطرارهم للعمل أجراء في أرضهم التي استولى عليها المستوطنون، متعرضين لأقسى أنواع الاستغلال من شبكة من السماسرة والإدارات المحلية ووسطاء العدو المحتل. في واقع هو أشبه بحال الحصار بحكم عزلة البلدة عن محيطها العربي لوجودها بين التجمعات السكنية الصهيونية، والحدود الأردنية. حيث يقتصر تواصلهم مع العالم الخارجي على جهاز المذياع في المقهى الذي استخدمه الفيلم لا لخلق هذا التواصل فحسب، وإنما كي لا يعزل الجريمة القادمة عن الجريمة الأساس المتمثلة بغرس الكيان الصهيوني في منطقتنا ليحول دون تطورها وتجميع طاقاتها. وهو ما حكى عنه الفيلم بشكل غير مباشر».

وأخيراً وبحسب قول الإعلامي والناقد سعد القاسم «في السجل الإبداعي لبرهان علوية اثنا عشر فيلماً تترجم مواقفه الإنسانية والفكرية والسياسية. ولو أنه لم يصنع سوى فيلم (كفر قاسم) لكفاه هذا إنجاز حياة».

الوطن