«سورية وعصبة الأمم» للدكتور بشار الجعفري … كتاب مكتنز بالمعلومات والوثائق يكشف الدبلوماسيات العالمية

كتاب ضخم مكتنز غني بالمعلومات والوثائق لم أطالع مثله حجماً وغنى منذ سنوات. «سورية وعصبة الأمم»، وهو باكورة إصدارات دار نشر جديدة في دمشق هي «بستان هشام»، ليس كتاباً عن سورية وعصبة الأمم فق، هو في الحقيقة تاريخ للدبلوماسيات العالمية التي شكلت أساليبها الملتوية دولاً انتزعت من كيان جاثم في ضمائر الناس اسمه «بلاد الشام».

ضخم هو، عدد صفحاته 863 من القطع الكبير، وثائقي هو، تعثر فيه على ما تتوقع وما لا تتوقع من وثائق كلها مفيد وضمن الموضوع، مكتنز هو، لماذا؟ ثلثاه في ما أقدر، هوامش على النص، كتبت بحرف أصغر. فإذا أحصيت الأحرف فسيتضح أن مادته تصلح لبضعة كتب قد تبلغ العشرة. وصف ممتدح في مجمله، وتتلوه…. «ولكن».

ولكن كان على المؤلف والناشر معاً أن يكونا أكثر رحمة بالقارئ، ليس ثمة جدول محتويات مفصل، ليس ثمة قائمة مراجع ليس ثمة فهرسا إعلام وموضوعات.

أعلمني المؤلف أنه ذكر جهدي في التعريف بالمادة 78 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعرف باسم «مادة سورية». تعبت، وما وصلت إليها إلا بعد أن غالبتني نفسي مرات بأن أتصل به لإرساله عن رقم الصفحة.

وهكذا صنعت لنفسي على أوراق متناثرة ما يشبه أن يكون فهرس موضوعات تعينني فيما عزمت عليه من تعريف بالكتاب فلننظر.

الدول العطشى للثروات

ثمة صفحات طويلة عن عقوبات ترامب على مسؤولي محكمة الجنايات الدولية الذين انتقدوا بعض التصرفات الأميركية (ص 112-116) وهي مفيدة لنا في تبيان محدودية تلك المحكمة التي يظن البعض أننا بالشكوى إليها سوف نستعيد بعض حقوقنا، قولي هذا لا يعني أن نهمل تقديم شكاوينا إليها، ولكنه يعني ألا نبالغ في التفاؤل بما يمكن أن تقدمه لنا.

ثمة صفحات مفيدة جداً عن «الحق في الحماية» (ص 121) وهو الحق الذي نودي به ليكون ذريعة للقضاء على حكم القذافي، هو الحق الذي جعل من ليبيا فريسة دول عطشى للنفط الليبي.

ويحضر في الكتاب حادث مصرع الكونت برنادوت (ص 128، وهو أمر يستمر مهماً. ما تزال صالحة دعوتي التي أطلقتها في جريدة «الأسبوع الأدبي» من أن يوم اغتياله يصح أن يسمى يوماً عربياً ودولياً للقضاء على الإرهاب الدولي، أو على الأقل على الإرهاب الذي يتعرّض له مسؤولو الأمم المتحدة لدى قيامهم بواجباتهم. ولنتذكر أن دعوتي المنشورة في أيلول 1991 إنما جاءت قبل وقت قصير من إشهار الوزير الشرع في مؤتمر مدريد صورة شامير مطلوباً للعدالة كمجرم.

وترتبط باغتيال برنادوت حادثة مصرع همرشولد التي يبحث فيها الكتاب مفصلاً عبر صفحات طوال تشير، تقريباً، إلى دور بريطاني.

اطماع للغرب لا تنتهي

وألاحظ بكل تقدير للدكتور الجعفري أنه قام بجهد كبير في تأريخه لأطماع الغرب في بلاد العرب وسعيه لتقسيمهم. وألاحظ، بكل تقدير له أيضاً، أنه لم يلجأ، في هذا المجال، إلى ما يعرف بـ«وثيقة كامبل بنرمان» ولي معها تاريخ أثناء عملي لدى رئاسة الدولة عام 1970. هي وثيقة كان البحث عن نصها الحرفي أول ما طلبه مني رئيس الدولة أوائل عام 1970. وأحب لكل من يقرأ لي الآن أن يعود إلى ما كتبه عن الوثيقة الدكتور أنيس صايغ في مقال بجريدة السفير 26 تموز 1996، وقد أعدت نشره في باب خاص من كتابي: «وعد بلفور» ( دمشق وعمان، مؤتمر الأحزاب العربية، الطبعة الخامسة، 2010) تحت عنوان: «في الموازنة بين الحقائق العلمية وبين الجهود التعبوية» (ص: 325-336).

الاكتناز بالمعلومات

وفي الصفحة 257 يرد ذكر المؤرخ الإنكليزي من أصل عراقي إيلي خضوري مكتوباً على نحو آخر. إنه ليس خدوري الذي إليه ينتسب العلامة مجيد والاقتصادي النفطي الدكتور وليد، إيلي خضوري زوج سيلفيا حييم، أستاذان جامعيان همهما معاً إضعاف القومية العربية عبر دراسات كثيفة التوثيق. كانت لي عن خضوري، وليس معه، «موقعة» في مؤتمر عقد في رودس عام 1977. أرخت الموقعة في كتابي: «نحو علم عربي للسياسة» ولمن يرغب في التفصيل أن يعود إلى الصفحات 164-168 من الكتاب في طبعته الثالثة الصادرة في دمشق عام 2009.

» سورية وعصبة الأمم». ذلك عنوان يبدأ بعد أن نكون قد قطعنا 374 صفحة من الكتاب. عنوان متأخر، لكن ما بعده مطول أيضاً يزيد عن 450 صفحة، ألم أقل لكم إن الكتاب ضخم مكتنز؟

وأستطيع أن أستمر في التجول هكذا بين صفحات الكتاب، ولكن فلأقتصر.

سوف أقف عند نقاط أربع أستحسن الإشارة إليها وقد استقرت في الذهن لدى القراءة، وأتبعها بثلاث نقاط أخرى أراني مولعاً بإيرادها.

نقاط ومعلومات

الأولى: عبث أميركا بهيبة الأمم المتحدة فيما يختص بحرية حركة الدبلوماسيين. أحسن جداً السفير السوري فيما أورده عن عدم تمكنه من السفر إلى فعالية للأمم المتحدة دعي إليها بسبب معارضة الأمن الأميركي. ضاع رقم الصفحة إلا أن الحكاية مفيدة جداً لمن يظن من الدبلوماسيين أن الإقامة في نيويورك رفاه ورغد. أتساءل: متى تنقل الأمم المتحدة مقرها من نيويورك إلى مكان أكثر احتراماً لها؟

الإجابة: في مستقبل غير منظور، وتبقى سلطة أميركا على المقر أحد عناوين سلطة أميركا على المنظمة.

الثانية: عناية المؤلف بكيفية دخول دمشق أواخر أيلول أوائل تشرين الأول 1918 كما في الصفحة 704 وما يليها، حادثة مهمة يزيدها أهمية ما أورده عنها كتاب أبت موضوعية المؤلف إلا أن تشير إليه في ص 781.

الثالثة: تعلمت من الكتاب أن ذهاب فيصل إلى مؤتمر الصلح كان له أثره في نشوء حزب الوفد المصري، أحب سعد زغلول أن يكون له ما كان لفيصل، أي أن تدعى مصر إلى مؤتمر الصلح. لم يحصل، خلق حزب الوفد، لمصر أم لربوع الشام تنتسب؟ اكتب في 23 تموز 2021. السلام عليك يا جمال عبد الناصر الذي ورث شعوراً بوحدة العرب فضاعف الميراث مرات ومرات، وما يزال الميراث إلى تضاعف رغم بعض الارتكابات وبعض الارتباكات.

الرابعة: تعلمت من الكتاب أيضاً ما لا يخطر لي ببال. منه عرفت أن اللواء علي المملوك مؤلف كتاب واحد على الأقل، وهو الذي لا أعرف عنه سوى أنه شخصية أمنية – ولا استهانة بهذه الصفة- هو مؤلف أيضاً. ولكتابه عنوان مغر: «هذا أبي!». ومن أبوه؟ إنه يوسف العظمة. ما أحلى أن ينسب عسكري له دوره اليوم، أن ينسب نفسه إلى عسكري له مكانه الباذخ في تاريخنا السوري المعاصر. غداً 24 تموز، وله عندنا فخامة عز في 1920، وله عندنا مرارة تآمر في 1922، في 24 تموز 1922، أي قبل 99 سنة، أقر مجلس العصبة صكوك الانتدابات ومنها الانتداب على فلسطين. ألم تسمعوا أيها القراء الأعزاء بدعوتي إلى «محاكمة» صك الانتداب على فلسطين في ندوة قانونية دولية تعقد في مبنى « قصر الأمم» بجنيف لمناسبة الذكرى المئة لارتكاب ذلك الجرم المشهود؟

ثم نعم تعلمت من كتابك يا دكتور بشار ما لا يخطر ببال. وكيف يخطر بالبال أنه كانت ثمة علاقة استحسان متبادل بين فيصل ممثل ملك الحجاز وبين أناتول فرانس الأديب الفرنسي الشهير؟ وعلى من يرغب في التفصيل أن يذهب إلى ص 740.

ملاحظات وتواريخ

آتي إلى النقاط الثلاث التي أجد نفسي مولعاً بإيرادها، وسوف، إن شاء الله، يأخذها بجدية الدكتور الجعفري:

الأولى: ص 695. لم يتم الجلاء في 17 نيسان. انسحب آخر جندي أجنبي من سورية الإثنين 15 نيسان واحتفل بالجلاء بعد يومين. ما جنسية آخر جندي غادر دمشق؟ هندي في فصيل هندي ضمن الجيش البريطاني. وحدد لعيد الجلاء موعد في 18 نيسان، ثم عدل عنه إلى 17 نيسان في مشهد عظيم – من الجميل أنه عتّم عليه آنذاك، ومن الجميل بل من المفيد أيضاً أن نكشف الستار عنه اليوم -. لي عن الأمر مقال في مجلة « جمعية العاديات» الحلبية، يوضح «المذهب السوري» في حوار الديانات.

الثانية: غياب الإشارة إلى بعض المراجع العربية – والسورية ضمنها- التي تعالج بروية الأحداث التي يعالجها الكتاب.

الثالثة: في الحديث عن الرئيس ويلسون وصورته التي تتغير هذه الأيام ثمة مقتطف بالغ الروعة وقعت عليه في جلسة تنقيب جرت في مكتبة جامعة حلب. تحدث الكتاب عن جريدة العاصمة. لم يتحدث عن شقيقتها الحلبية واسمها «حلب». في أحد أعدادها احتفت بويلسون واصفة إياه بأنه «الوالد الثالث للبشرية بعد آدم ونوح». لدي صورة المقال وأتمنى ألا يغيب هذا الوصف عما قد يخطه قلم الدكتور الجعفري عن الرئيس ويلسون في قادمات الأيام.

فلأعد إلى السفير الجعفري الباحث المدقق.

مارس كثير من سفرائنا إلى الأمم المتحدة عادة تأليف الكتب خارج نطاق الكتابة الوظيفية. لفارس الخوري ولفريد زين الدين ولصلاح الدين طرزي ولجورج طعمة مؤلفاتهم المعروفة. وربما أن لغيرهم مؤلفاتهم. إلا أن أياً منهم لم يكتب للناس عن عمل المنظمة الدولية. وتلك فرادة تجربة الدكتور الجعفري في كتابه الجديد. أنه كتب من مقر العمل وعن مقر العمل. لكتابه عن «سورية وعصبة الأمم» صلة يعدنا هو بها. فلننتظر. سوف يهدينا، قريباً كما أرجح، كتاباً جديداً عن سورية ومنظمة الأمم المتحدة. هكذا وعد ووعد الحرّ دين.

وله مني شكر خاص. وفّر لي كتابه فرصة لأستعيد بعض ما في الذاكرة من خبرة شخصية مع منظمة شعرت بثقل كابوسها منذ كنت طفلاً أنادي مع بقية التلاميذ: «يسقط قرار تقسيم فلسطين».

الوطن