مشاهد الخروج المذل للقوات الأميركية من مطار كابل خلال الأيام الماضية، لا يمكن وصفها إلا بالهزيمة المنكرة، مهما حاول محبو أميركا التبرير لها، أو القول إنها تخطط بذكاء لضرب ثلاثة عصافير بحجر طالبان، أي استهداف روسيا والصين وإيران من خلال إمارة إسلامية تُترك لـطالبان بعد انهيار النموذج الأميركي للنظام السياسي، الذي أرادت واشنطن من خلاله أن تثبت للكرة الأرضية أنها ستنجح بزرع نموذجها في قلب آسيا من دون اكتراث بمن كان يحذرها من مخاطر ذلك النموذج، الذي سيسقط عند أول امتحان لأنه نموذج مستورد وليس صناعة محلية.
كل السيناريوهات مفتوحة وواردة، خاصة أن للاتفاق الأميركي الطالباني بنوداً سرية لا نعرفها، وما يثير الريبة والشك أن قطر المكلفة أميركياً بالإنفاق والتمويل على مشروع «الأخونة» في المنطقة، هي نفسها حاضن الاتفاق، وهي من فتحت لـطالبان سفارة منذ عهد ترامب، وتحتضن المفاوضات الجارية، كما أن قناة «الجزيرة» الفضائية، قناة الإخوان والقاعدة، هي الوحيدة التي صورت وسوقت صورة قيادات طالبان في القصر الرئاسي الأفغاني في محاولة لإبراز هذه الصورة، وإعطاء النموذج الطالباني في إدلب مثلاً، ترياقاً للحياة وإمكانية النجاح، ولهذا هلل الإرهابيون في إدلب بمختلف جنسياتهم للمشهد الذي بثته «الجزيرة» من القصر الرئاسي الأفغاني، وهذا سيناريو وارد ويجب أن نفحصه جيداً وندرسه من كل جوانبه علمياً وواقعياً.
لكن مقابل هذه الصورة التي من حق البعض أن يفكر فيها جيداً، لابد من تذكير هؤلاء بأن النمط الطالباني لا جذور اجتماعية له في سورية، وأنه هُزم وسيهُزم هزيمة نهائية مهما تلقى الجولاني وأنصاره من تنظيمات التطرف، دعماً خارجياً، ذلك أن الآية مقلوبة بين من يهللون في إدلب، وفي كابل، ففي إدلب بقاء القاعدة يرتبط بدعم أميركي بريطاني تركي، وله وظيفة مؤقتة، ولا جذور اجتماعية له، في حين سر نجاح طالبان هو الاحتضان الاجتماعي لها، وقتالها ضد الاحتلال الأميركي، أما السعودي المحيسني فمن يقاتل في سورية، أو الشيشاني أو الإيغوري أو التركي، أو.. أو.. هؤلاء بمهمة استخباراتية أطلسية ستنتهي وسيزولون مع انتهاء المهمة، أو ضمن التسويات مهما طال الزمن، وتتبع ذلك النماذج المتبقية في درعا، أو البادية السورية، أو أي مناطق سورية أخرى.
في سورية لا مستقبل للتطرف والتكفير، بالرغم من وقوف الغرب، والتمويل الهائل لهم طوال سنوات عشر، لكن السوريين وحلفاءهم هزموا هذا المشروع، وأحبطوا أهدافه حتى الآن، ذلك أن النظام السياسي في سورية متجذر، ومنتمٍ أكثر للناس والشعب، والأهم أن الجيش العربي السوري له حاضنه الشعبية، وعقيدته الوطنية، أما الرئيس بشار الأسد فهو ابن شعبه وخرج منه وباقٍ بدعمه، ولذلك لم يُعر اهتماماً لتصريحات رؤساء الدول الكبرى بمن فيهم الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وغيره، بشأن البقاء في السلطة أو عدمه بالقول: أتيت بإرادة شعبي، ولن أغادر إلا بإرادتهم، وفي عز المخاطر والتهديدات ظلّ الرئيس الأسد يعمل بشكل طبيعي، ويواجه مع شعبه وجيشه الحرب الإرهابية الفاشية على سورية، ولم يتراجع للحظة، ولا ارتعد أو خاف أو تردد، هو نموذج على الغربيين المكابرين دراسته، وليس محاربته كما يفعلون، ليسألوا أنفسهم لماذا سقطت أوراقهم في سورية؟ ويبدو أن الدرس الأفغاني قد يعيد الكثير من الحسابات للرؤوس الحامية في الغرب، بالرغم من أن الدرس السوري كان ولا يزال أكثر إيلاماً لهم.
في موسكو لا يخفي البعض شماتتهم بما حدث في كابل خاصة أن الخروج المذل للأميركيين ليس بعيداً من حيث التاريخ عن الذكرى الـ30 لتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وأن المتطرفين الإسلاميين الذين صنعهم زبغنيو بريجنسكي، مستشار للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، لهزيمة السوفييت هم أنفسهم من أخرج الأميركيين، أي إن واشنطن هزمت بالأداة نفسها التي استخدمتها ضد خصومها، وبرأي الفيلسوف الروسي المعروف ألكسندر دوغين، فإن نهاية الأممية الليبرالية ستشهدها المرحلة المقبلة من خلال هزيمة النموذج الأميركي لينتقل العالم إلى عصر جديد من التعددية القطبية، وبناء كل أمة لنموذج الحكم والسيادة السياسية حسب ثقافتها وتقاليدها الراسخة، ويرى دوغين وأنصاره أن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت إيذاناً بنهاية الفاشية، وتفكك الاتحاد السوفييتي إيذاناً بانتهاء الأممية الشيوعية، والمرحلة القادمة إيذاناً بنهاية الأممية الليبرالية، وهي ثلاث إيديولوجيات غربية سعت للهيمنة على البشرية منذ عقود طويلة من الزمن.
بعض الأطراف الروسية الأخرى لا تخفي قلقها من الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة، وترى أن واشنطن سوف تستخدم أفغانستان بأدوات جديدة ضد روسيا مما سيحملها مسؤوليات كبيرة، وتبدو لي هنا مخاطر كامنة تتمثل بالحبل السري الذي تشكله تركيا ما بين نموذج إدلب القاعدي، ونموذج طالبان في كابل، وعليهم الانتباه لذلك، فهذا سيناريو وارد جداً.
بكل الأحوال قراءة الحدث الأفغاني تحتاج إلى دراسات وأبحاث كثيرة ومتأنية، كما يحتاج هذا الحدث للتروي قليلاً إلى ما بعد انجلاء غبار التطورات المتلاحقة، ولكن ما يكتبه الأميركيون هو الأكثر تعبيراً هذه الأيام، إذ تعترف روبين رايت في «النيويوركر» بأن ما سمّته التراجع الكبير من أفغانستان يؤشر إلى نهاية الحقبة الأميركية، في حين يذهب كريس هيدجز الحائز جائزة «بوليتزر» للصحافة والمراسل المخضرم لـ«نيويورك تايمز» في مقال مهم للغاية له بعنوان «آلة الانتحار الجماعية» إلى أن الانهيار في أفغانستان وعودة طالبان للسلطة هما علامة أخرى على نهاية الإمبراطورية الأميركية، والأخطر حسب هيدجز أن أميركا كأي إمبراطورية في حالة اضمحلال نهائي لا أحد يحاسب أحداً على الكارثة، أو الهجمات في العراق أو سورية، أو ليبيا، أو الصومال، أو اليمن، أو أي مكان آخر، وفي النهاية هي آلات الانتحار الجماعية، حيث يصبح الجيش في أواخر عهد الإمبراطورية غير قابل للإدارة، وغير خاضع للمساءلة، بغضّ النظر عن عدد الهزائم والأخطاء أو مقدار الأموال التي ينهبها، ما يؤدي إلى إفقار المواطنين، وترك المؤسسات الحاكمة، والبنية التحتية المادية متدهورة، ويتابع: لقد وجدت واشنطن نفسها تحاول يائسة تدمير الآلة التي صنعتها بيدها لقتال السوفييت، ليخلص إلى أن كل الإمبراطوريات خلال الـ4 آلاف سنة الأخيرة سقطت جميعها جراء العربدة نفسها من الحماقة العسكرية.
كلام كثير يمكن كتابته عن هذا الحدث، ولكن الأهم أن أولئك الذين مازالوا يعيشون على وهم الدعم والحماية الأميركية يجب أن يبدؤوا بإعادة التفكير وأخذ العبر والدروس سريعاً، ذلك أن روبين رايت تختصر الأمر بالقول: إن ما تبنيه واشنطن من قوى مسلحة خادمة يساوي تلال قشٍ حين يحين الوقت المناسب.
إلى تلال القش في ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» وغيرها، اقرؤوا ما يكتبه معلموكم، واتعظوا قبل أن تركضوا خلف مروحية أميركية ولا تجدوا مكاناً، لأن الكلاب البوليسية لدى الأميركيين أكثر أهمية من كل العملاء، الذين تؤكد رايت أنهم ليسوا أكثر من تلال القش عديمي الفائدة ولا قيمة لهم.
أنتم لا قيمة لكم في آلة الانتحار الجماعية، كما يسمي كريس هيدجز، الإمبراطورية الأميركية.
الوطن السورية