يتحدث كثيرون اليوم عن العلاقة التي تربط الإعلام بالأدب، وخاصة من الناحية المهنية، فيعدُّون أصحاب الأسلوب العالي الأدبي في إطار مختلف عن الصحفيين والإعلاميين الذين درسوا الإعلام علماً مستقلاً وفناً خاصاً أكاديمياً، وذلك خاضع للرؤية الخاصة، ففي الوقت الذي يعدون فيه محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وعلي أمين وأنيس منصور من الصحافيين ينفون ذلك عن عبد السلام العجيلي وعبد المعين الملوحي ومحمد الماغوط وسواهم ممن أسسوا للصحافة، وممن أسهمت الصحافة في نشرهم وتطويبهم بشكل من الأشكال.
النشأة والتاريخ
هناك مشكلات يعانيها هؤلاء، تتمثل في أنهم لا يعرفون الكثير عن تاريخ الصحافة، والعربية خاصة، وبالتالي هم يجهلون تاريخ الأدب العربي الحديث والنهضة العلمية والأدبية التي كانت قبل أكثر من قرن ونصف القرن وأجهضت.. فالصحافة العربية لم تنشأ في أحضان الأكاديميات ولا الدول ولا السلطات العربية، وإنما نشأت الصحافة العربية في القرن التاسع عشر، حين لم تكن هناك دول مستقلة، ولم تكن الجامعات بكل اختصاصاتها قد أنشئت!
ولدت الصحافة العربية بجهود فردية لمفكرين وأدباء وشعراء من «العروة الوثقى» إلى «لسان الحال» إلى «لسان العرب» إلى «الأصمعي» إلى «الشام» إلى «المقتبس» إلى «القبس» إلى «المقتطف» إلى «المؤيد» إلى «الأهرام» إلى «الرسالة» وجلّ هذه الصحف والمجلات قام عليها شعراء وثائرون موّلوها وأصدروها واعتقلوا من أجلها، وأفلسوا فداء لهذه المهنة التي أحبوها، فصدرت حيناً، وأوقفت حيناً، وأغلقت ولوحق ناشروها وكاتبوها مثل «الشهباء» وعبد الرحمن الكواكبي الذي انتهى به المطاف مسموماً على أيدي رجال السلطان عبد الحميد بعد فراره إلى القاهرة.
وهذه النشأة والبدايات تظهر دون أدنى شك أن الصحافة جاءت إلى البيئة العربية مهنة أرادها الأدباء والمثقفون، احتضنوها أحياناً، وألقوا أنفسهم في حضنها في أحايين كثيرة، فكانت لسانهم ولسان حالهم، وكانوا حماتها وسدنتها وكاتبيها ومموليها وناشريها، وإليهم يعود الفضل الأول في نشوء الصحافة وليس للدول، ومغامرة الأخوين تقلا في «الأهرام» أكبر من أن يتم تجاوزها.
الوسيلة والوعي
منذ زمن بعيد كان أثر الكتاب الصادر أقل بكثير من الإعلام، فقد لا يذهب أحدهم لشراء كتاب أو قراءته، وربما اشترى أحدهم كتاباً لشهرته وما سمعه عنه، لكنه يضعه على رفوف المكتبة دون قراءة، لذلك يعدّ المؤرخون، ومؤرخو الأدب خاصة أن المطبعة والصحافة من علامات النهضة وأسبابها، وهذا وجه مهم للغاية من وجوه الحقيقة، ولو عدنا فإننا سنجد أنه ما من أديب وصلنا ووصل أدبه وشعره إلا عن طريق الصحافة، وما من أديب إثر ولوحق وربما اعتقل وقتل إلا لأنه عمل في الصحافة.. فخير الدين الزركلي حكم بالإعدام مرتين بسبب الصحافة، ونجيب الريس اعتقل في أرواد ونظم نشيده بسبب الصحافة، وعبد الرحمن الكواكبي قتل بسبب الصحافة.. والأسماء الكبيرة في العصر الحديث كلها بلا استثناء كانت تكتب للصحافة، والصحافة هي التي هذّبت الأسلوب من السجع الثقيل المقيت إلى الأسلوب المرسل كما كان من أمر الشيخ الإمام محمد عبده الذي مرّ بالمرحلتين.. وما كان لنا أن نسمع بهؤلاء الأدباء لولا الصحافة التي عملت على شهرتهم، فكان كل كاتب من الكتاب محصوراً بصحيفة تمثله سياسياً أو حزبياً أو فكرياً، لا يكتب لسواها، وهذا ما جعل الصحافة نفسها تتطور عربياً بسبب تنافس الأقلام واستقطابها.
الأدب ومعاركه والصحافة
يتحدث النقاد عنه المعارك الأدبية بين محمد عبده وخصومه، بين الكواكبي والعثمانيين، بين الزركلي والفرنسيين، بين العقاد والمازني من جهة وشوقي، بين طه حسين والرافعي، بين وبين.. ويبكون على تلك الأيام التي كانت المعارك الأدبية قوية ومنتجة، ولكن الحق بأن هذه المعارك لم تكن لولا الصحافة، فما من أحد ينتظر خصمه سنوات ليتم تأليف كتابه ويطبعه ليرد عليه! بل لا قيمة لذلك، لكن المتتبعين يعرفون أن الصحافة كانت منبر هذه المعارك بشكل أسبوعي وعلى أبعد تقدير شهري، حيث يكتب الواحد منهم وينشر، ثم يأتي الآخر وعلى صفحات جريدة منافسة ليرد عليه وينتقض آراءه، ولأن التواصل من خلال الإعلام مباشر مع جمهرة المثقفين والأدباء، كان الواحد منهم يبذل جهوداً كبيرة ومضنية، ويستعين بتحصيله وقراءاته لتقديم أفضل ما لديه، لأن الأمر يصل حدّ المبارزة بين مثقف وآخر، شاعر وآخر، أديب وآخر، واتسع الأمر ليصبح الأمر مبارزة بين تيار وآخر، واختاروا أسماء ذات دلالة، القديم والجديد وسوى ذلك.
نتاج صحافة أم أدب؟
يقلّب اليوم القراء كتباً كثيرة بين أيديهم مثل: من بعيد، تاريخ الأدب العربي، ألوان، حديث الأربعاء لطه حسين، وحديث القمر، وحي القلم للرافعي، والديوان للعقاد والمازني، وأعمال جبران خليل جبران العربية والمعرّبة وغيرها من الكتب القيِّمة، ولا يتنبه كثيرون إلى أن هذه الكتب العظيمة اليوم، والتي أصبحت تراثاً للعربية المعاصرة، بغض النظر عن الرأي فيها، هذه الكتب كانت نتيجة طبيعية للصحافة والمجلات، فكل هذه الكتب نشرت مقالات ثم جمعت، وأول ما نشره جبران خليل جبران كان كتاب الموسيقي، مقالة موسعة صارت فيما بعد كتاباً، وآخر كتبه المعربة (التائه) كان موزعاً في الصحف، جمع بعد وفاته في أول طبعة له.. ووحي القلم للرافعي، وهو من الكتب المهمة التي يتناولها الدارسون بإجلال لم ينشر كتاباً، وإنما كان مقالات في مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات الذي دعا الرافعي للكتابة عنده، لكن الأجل أدرك الرافعي، فقام تلامذته يتقدمهم الأستاذ العريان بجمع هذه المقالات في كتاب حمل اسم (من وحي القلم) دلالة على مضمونه وما يرمي إليه، وبما يناسب ما جادت به قريحة الرافعي.. فالصحافة هي التي أغنت المكتبة العربية الحديثة بمئات الكتب والأبحاث والدراسات، وكان لها الفضل الأكبر في نشر المعرفة ورفع مستوى الخطاب الثقافي بين العامة والقراء، وجعلت القراء شركاء في هذا النقاش الفكري العالي والغني، ولا يجوز أن نرد ذلك للكتاب وحده، فهذه الكتب كانت صفحات في الدوريات قبل أن تكون في كتب، ولابد من ملاحظة مهمة بأن الصحافة العربية في بداية القرن لم تكن مصنفة بالتخصص بالشكل الحاد، فجرائد الأحزاب، الوفد والوطني وسواه هي التي احتضنت كتابات طه حسين والعقاد. أي الجرائد السياسية العامة هي التي كانت ميدان الأقلام الثقافية الفاعلة من محمد عبده إلى أحمد لطفي السيد وسواهما من الكتاب الكبار الذين أغنوا الحياة الثقافية والأدبية والفكرية.
ما تقدم يذكر للتدليل على التعاضد بين الثقافة والأدب من جهة والصحافة من جهة أخرى، ما أدى إلى رقي الحركة الثقافية والأدبية، واشتداد أوار المعارك الثقافية التي عادت إيجاباً على المناخ الفكري وغناه بسبب حدة النقاش وحرارته في تلك المرحلة المهمة من حياتنا الحديثة.
ازدهار للصحافة والأدب
إن هذه الحركة الدائبة التي تؤكد فضل الصحافة على الأدب، حيث ولد الأدب الحديث شعراً ونثراً وازدهر على صفحات الصحافة، ليس المقصود منها أن تعزز مكانة أحدهما على الآخر، وإنما تقصد بالدرجة الأولى أن هذا التلاحم العضوي بين الأدب والصحافة والسياسة والفكر أدى إلى ازدهار كليهما، فالصحافة لم تعد محصورة في صحف الأحزاب السياسية، بل صارت الصحافة سمة العصر، فحلب فيها عدد من الصحف، ودمشق عدد آخر، وبيروت والقاهرة، بل إن العودة إلى أرشيف الصحافة في تلك الفترة تؤكد وجود صحف ذات قيمة وأهمية في المدن والبلدان البعيدة عن المركز والعاصمة، ونظراً لسهولة استصدار الصحف فردياً أو حزبياً، وجدنا كمَّاً من الصحف يمكن أن يباهي بها العرب في العصر الحديث، وهذه الكثرة هي التي ضحت فيما بعد إلى خلق الصحف والمجلات المتخصصة، فكانت «الرسالة» و«المقتطف» و«مجاني الأدب» والذي سمح بالجنوح إلى التخصص كثرة الصحف والدوريات.
وعلى جانب الأدب والثقافة كانت هذه الصحف تحتاج إلى أقلام ذات مستوى عالٍ، وتعمل على استقطاب الكتّاب الكبار، أو الكتّاب الذين يُلمس لديهم النبوغ أو شيء منه، فازدهر النقد والشعر والأدب.
العلاقة التبادلية بين الصحافة والأدب أدت إلى ازدهار كليهما، ولم يحدث أي نوع من التنافر بينهما، بل على العكس تماماً كان الارتقاء كماً ونوعاً في الصحافة، وكان الأدب والنقد في أبهى صوره وحالاته، سواء كان واضحاً وقاسياً، أم كان ناعماً بشكل من الأشكال، وكما تشير الدراسات يكفي الصحافة فخراً أنها كانت مستقطبة لأساطين الأدب واللغة والبلاغة، وأنها كانت الحافظ الحقيقي للأدب الحديث وما فيه، ويكفي أن نعرف أن أحمد شوقي طبع ديوانه في أربعة أجزاء وفي حياته، وعلى الشكل الذي يريد، لكن وجود الصحافة مكن الباحثين من جمع أشعاره التي أهملها أو استثناها لسبب أو لآخر، ومن صفحات الصحف التي نشرتها، فكانت الشرقيات المجهولة بحجم الديوان المنشور من قبل!
هل تراجع الأدب أم تخلت الصحافة؟
اليوم لم تعد الصحافة كما كانت، والأدب تراجع دوره وتراجعت مكانته في الصحافة، فخسرنا دور الصحافة التنويرية التثقيفية، وتحت ذرائع الصحافة الإخبارية وصناعة الصحافة، وانحسر الأدب في دوريات متخصصة ليس لها جماهيرية الصحف اليومية والحزبية التي تسير بين العامة، فرواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ أخذت حظها لأنها نشرت مسلسلة في الأهرام، ولو نشرت في صحافة متخصصة فلن تصل إلى ما وصلت إليه، وقبل طباعتها في رواية مستقلة.
باختصار: إن متخصصي الصحافة صنعوا لأنفسهم طوقاً يدّعي أن الصحافة شيء مختلف عن الأدب، وذلك بغية قضايا شخصية تخصصية، والأدباء انعزلوا في أماكنهم لأنهم كانوا مبعدين، ولم نعد نجد بارقة أدبية تستحق الوقوف عندها! ولم نعد نشهد المعارك الأدبية كالتي كانت بين محمود شاكر ولويس عوض ومحمد مندور وميخائيل نعيمة، ناهيك عن المعارك الأكثر شهرة في أدبنا الحديث، وهذا التقوقع من كل جانب، واستئثاره باختصاصه أدى إلى تراجع هذين الدورين، ويكفي أن يتابع الواحد منا الصحف الخاصة بالأحزاب العربية وفي كل البلدان ليجد منشورات لا قيمة لها تفتقد لكل مقومات الصحافة التي كانت موجودة قبل قرن من الزمن!
وأخيراً
لا ضير في أن تكون الصحافة علماً لأصحاب الاختصاص، وأن يكون الأدب والنقد لأهله، لكن المساحة المشتركة بينهما لابد من أن تعود للتعاون لا للتنافس، لعل الحراك الثقافي والأدبي والفكري والسياسي يعود إلى أوجه، فالفكر السياسي والفكري تقدمه النصوص، ولا تقدمه الأخبار، وخاصة في غمرة التقدم في وسائل التقانة والتواصل، التي يجب أن تدفع إلى مراجعة تعيد للصحافة ألقها المؤثر، وللأدب المنبر الذي يقدم رؤاه من خلاله.
الوطن