مما لا شك فيه أن الإصلاح الإداري في سورية ضرورة حيوية، ويجب أن تُفرد له مكانة خاصة ضمن صدارة الأولويات، فإذا سألت أي شخص حول الأداء الإداري، فسيجيبك فوراً بأن الإدارة تشتكي إلى حد كبير من البيروقراطية والروتين، ومئات الألوف من القرارات والتعاميم والتعاميم المضادة وقرارات اللجان، والتقاطعات والتناقضات في الصلاحيات، والقرارات الاستنسابية، وتلك المبنية على الأعراف الإدارية والاستثناءات،… إلخ.
متاهة حقيقية تعوق الفعالية الحكومية، وتفتح الباب أمام الطرق الالتفافية للفساد، وتعوق تطور الاقتصاد وتحد من الإنتاجية، وتلعب دوراً أساسياً في إفشال القطاع العام، بل الخاص أيضاً على حد سواء، كل ذلك يضعف مشاعر رضا المواطن وقناعته بالأداء الإداري، فيتحول البعض من حيث لا يدرون إلى ساخطين وناقمين على الأداء الحكومي، وهذه المشاعر السلبية بدورها تجعل المواطن في موقع غير المتعاون، والمتفاعل سلباً، وفاقد الأمل في التطوير.
ولكن.. ليس الإصلاح الإداري مقتصراً على ترشيق الإدارات الحكومية وتقليص البطالة المقنّعة والحد من النفقات، وإن كانت تلك جميعها شروطاً لازمة (وإنما غير كافية) في ظل ضرورات الأزمة وضغط الإنفاق الحكومي.
تلك الأمور على أهميتها لا تكفي، بل إنه من الممكن القول إن فعالية ونزاهة الأداء الحكومي والإداري مرتبطة أساساً باتباع معايير الشفافية وتدعيمها، بما يردم هذه الهوة الواسعة بين العمل الحكومي، ووعي المواطن به ورقابته عليه.
تقوم الشفافية بالدرجة الأولى على مبدأ البيانات المفتوحة open data التي تخص العمل الإداري والحكومي، ويتعلق ذلك بتحقيق شفافية بيانات الإنفاق الحكومي، والقائم على مبدأ publish what you pay أو «انشر ما تدفع» الذي يجعل الحسابات والنفقات الحكومية في متناول الجمهور، وذلك عبر منصات خاصة بكل جهة تُنشر فيها البيانات التي تتيح الاطلاع على مآلات الإنفاق الحكومي مفصلاً بالأرقام والأعداد والمُدد، بحيث يصبح هذا الإنفاق قابلاً لأن يوضع تحت مجهر الرقابة الشعبية والإعلامية والبرلمانية والمختصة بالشأن العام، وبالتالي يحظى المواطنون بفرصة تقويم الأداء الحكومي، وإخضاع المسؤولين الحكوميين للمساءلة، من دون أن يبقى فتح ملفات الفساد أو إغلاقها استنسابياً ويحدث في الظل.
إن التحول إلى الشفافية والبيانات المفتوحة ليس بالتحول الهين لدى مؤسسات لا تمتلك هذه الثقافة، وربما لم تسمع بها من الأساس، وبالتالي فإنجاز هذا التحول بحاجة إلى هيئة مختصة بدعم الشفافية مهمتها التأكد من أن الوصول إلى البيانات متاح بأكبر قدر ممكن في القطاعين العام والخاص، ويعود لها أيضاً أن تقدر أي من البيانات الحكومية تتطلب الإبقاء على سريتها لتتلاءم مع ضرورات ومعايير الأمن الوطني، وأي من بيانات القطاع الخاص تتطلب عدم إظهارها بما يلائم متطلبات التنافس الصناعي والتجاري.
من حق أي مواطن أن يعرف المواضع التي تنفق فيها الأموال التي تعود ملكيتها بالأصل إليه بوصفه المستفيد الأساس المفترض من الإنفاق الحكومي، ومن حقه أن يعرف أن الضرائب التي يدفعها وتقتطع من رزقه ورزق أبنائه يتم إنفاقها بعمليات نظيفة ونزيهة لا يشوبها الفساد، وأن كبار أصحاب رؤوس الأموال لا يتهربون من الضرائب، في الوقت الذي يدفعها هو من دخله المحدود.
تتعلق البيانات المفتوحة بقدرة المواطن على الوصول إلى الشفافية في فاتورة الاستيراد والتصدير والميزان التجاري، الشفافية في الإنفاق الحكومي بما فيه الإنفاق الاستثماري والإنفاق الاستهلاكي، الشفافية في دخل الدولة، فاتورة الدعم للسلع الأساسية، كيفية إنفاق التعويضات وتوزيع المزايا والمكافآت على الموظفين والمسؤولين، ونفقات التشغيل والإصلاحات والصيانة، فضلاً عن الشفافية في حجم التحصيل الضريبي ونسبه وشرائحه والمتهربين منه، والشفافية في المستفيدين من القروض الحكومية والخاصة ونسب تسديدها، والشفافية في إقرار الذمة المالية للمسؤولين قبل وبعد توليهم مناصبهم، وسواها من البيانات التي تجعل الأداء الحكومي معصوماً إلى حد بعيد عن كل ما يطبخ في الغرف المظلمة من إساءة إنفاق وهدر وفساد.
مناسبة هذا الحديث هي بلا شك مؤتمر الإصلاح الإداري الذي يعقد في العاصمة دمشق، وهو على أهميته وأهمية ما يطرح فيه غير كافٍ ليوصف بأنه مشروع شامل للإصلاح الإداري، فلا إصلاح إدارياً حقيقياً من دون شفافية، ولا إصلاح إدارياً حقيقياً من دون منح الفعالية الكاملة للجهات الرقابية كالهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، ومنع تهميش وتمييع قراراتها، وكذلك لا إصلاح إدارياً حقيقياً من دون التخلص من المحسوبيات في الوظائف والتعيينات والترقيات، الأمر الذي يحشو الإدارات العامة بأصحاب الكفاءات الضعيفة والمتسلقين، انتهاءً بالواقع الذي نعيشه اليوم.
الوطن السورية