تحت هذا العنوان، نشرت جريدتي “كوميرسانت” و”روسيا في السياسة العالمية” الروسيتين مقالاً لوزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف.
جاء في المقال:
انتهت المحادثات الصريحة والبناءة إجمالاً خلال قمة الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، في جنيف، 16 يونيو الجاري، باتفاق حول بدء حوار موضوعي حول الاستقرار الاستراتيجي، مع التصريح البارز بعدم جواز وقوع حرب نووية، وتحقيق تفاهم حول ضرورة عقد مشاورات حول قضايا الأمن السيبراني، ومناقشة قضايا أنشطة البعثات الدبلوماسية، ومصير مواطني روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ممن يقضون عقوبتهم، وعدد من النزاعات الإقليمية.
بطبيعة الحال، يبقى أن نرى كيف ستجري المشاورات المذكورة أعلاه بشأن تحديد نهج التفاهمات التي تم التوصل إليها في جنيف عملياً. وكما أشار الرئيس فلاديمير بوتين في المؤتمر الصحفي الختامي: “هناك أمور يتعيّن العمل عليها”. ومع ذلك، فإن موقف واشنطن المتشدد السابق، والذي تم التعبير عنه بمجرد انتهاء المحادثات، واضح للغاية، خاصة وأن العواصم الأوروبية، وبعد أن تفهمت مزاج “الأخ الأكبر”، بدأت هي الأخرى على الفور بغناء الألحان المكتوبة لها بكل دقة ونشاط وسعادة. جوهر التصريحات: نحن مستعدون لتطبيع العلاقات مع موسكو، لكن يجب أن تغيّر من سلوكها.
الانطباع العام هو أن الجوقة الداعمة للعزف المنفرد من “الأخ الأكبر”، قد أعدّت مسبّقاً، في إطار سلسلة من الفعاليات الغربية على أعلى المستويات، جرت مباشرة قبيل المحادثات الروسية الأمريكية: قمم مجموعة الدول الصناعية السبع G7 في كورنوال البريطانية، وحلف الناتو في بروكسل، وكذلك لقاء بايدن مع رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، ورئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.
أعدّت هذه الاجتماعات بعناية بحيث لا يتبقى أدنى شك، أراد الغرب أن يكون واضحاً للجميع أنه الآن أكثر اتحاداً من أي وقت مضى، ولن يفعل سوى ما يراه صحيحاً في الشؤون الدولية، ويفرض على الآخرين، روسيا والصين قبل أي أحد آخر، اتباع المسار الذي يحدده هو. وقد عزّزت وثائق كورنوال وبروكسل مفهوم “النظام العالمي القائم على القواعد”، مقابلاً للمبادئ العالمية للقانون الدولي، المنصوص عليها، بادئاً ذي بدئ، في ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
يتجنب الغرب بعناية فك رموز تلك “القواعد”، وكذلك الأسئلة حول سبب الحاجة إليها، طالما كان هناك الآلاف من أدوات القانون الدولي، التي وقّع عليها الجميع، وتحتوي على التزامات واضحة من جانب الدول، وآليات شفافة للتحقق من تنفيذها. إلا أن “سحر” هذه “القواعد” الغربية، إنما يكمن، على وجه التحديد، في غياب التفاصيل: يكفي أن تتصرف دولة أو كيان ما ضد إرادة الغرب، ليتهمه الغرب فوراً، وبلا أساس، بـ “كسر القواعد” (لن يقدم أحد أي حقائق بهذا الشأن)، ويعلن الغرب عن “حقه” في “معاقبة” المخالف. بمعنى أنه كلما غابت التفاصيل أكثر، كلما ازدادت حرية الأيدي الممتدة للتعسف، لصالح ردع المنافسين بأساليب ملتوية وبلا ضمير. في روسيا التسعينات “المحطمة”، كان يطلق على ذلك “التصرف وفق التفاهمات”.
تميّزت قمم مجموعة السبع وحلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وفقاً للمشاركين فيها، برمزية عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوروبا واستعادة تعزيز العالم القديم تحت جناح الإرادة الجديدة في واشنطن. لم يتلق غالبية أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي مثل هذا المنعطف بارتياح فحسب، بل رافقت ذلك التعليقات الحماسية. كان الأساس الأيديولوجي لإعادة توحيد “الأسرة الغربية” هو إعلان القيم الليبرالية، بوصفها “النبراس المضيء” لتطور البشرية. أطلقت واشنطن وبروكسل على أنفسهما، في تواضع العلماء، “مرساة الديمقراطية والسلام والأمن”، مقابل ما أسمياه “الاستبداد بجميع أشكاله”، وأعلنا عن نيتهما زيادة استخدام العقوبات لصالح “دعم الديمقراطية حول العالم” خاصة. والهدف هو تنفيذ الفكرة الأمريكية لعقد “قمة من أجل الديمقراطية” تحديداً لهذا الغرض. ولا يخفى على أحد أن الغرب، بالطبع، سوف يختار المشاركين في هذه القمة بنفسه، وسيحدد بنفسه المهام المنوطة بكل طرف على حدة، والتي لن يرغب سوى قلة من المدعوين، ممن وقع عليهم الاختيار، مناقشتها. يذكر أن الدول المانحة للديمقراطية سوف تأخذ على عاتقها كذلك “التزامات متزايدة” بشأن إنشاء “معايير ديمقراطية” على نطاق واسع، وتطوير آلياتها الخاصة للسيطرة على هذه العمليات.إقرأ المزيدروسيا وخطوطها الحمراء
كذلك فمن الضروري الانتباه إلى ما تمت الموافقة عليه “على هامش” قمة مجموعة الدول الصناعية السبع G7، في 10 يونيو الجاري، حيث قام جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بتوثيق ميثاق أنغلو أمريكي أطلسي جديد، وهو ما تم تقديمه كنسخة محدّثة من الوثيقة التي وقّعها الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون تشرشل عام 1941 تحت نفس الاسم، وهي الوثيقة التي لعبت بعد ذلك دوراً هاماً في البحث عن أطر للنظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
إلا أنه يجدر الذكر بأن واشنطن ولندن لم تذكرا كلمة واحدة حول حقيقة تاريخية أساسية، وهي انضمام الاتحاد السوفيتي، وعدد من الحكومات الأوروبية في المنفى آنذاك إلى هذا الميثاق “الأولي” قبل 80 عاماً، وبفضله أصبح هذا الميثاق أحد الأسس المنهجية لتحالف مناهضة هتلر، الذي أصبح بدوره أحد “النماذج الأولية” القانونية لميثاق هيئة الأمم المتحدة.
يُنظر إلى ميثاق الأطلسي الجديد كنوع من “نقطة البداية” لتأسيس نظام عالمي، ولكن وفقاً لـ “القواعد” الغربية حصراً. حيث يتضمن هذا الإصدار أيديولوجية تعميق الفجوة ما بين “الديمقراطيات الليبرالية” وجميع الدول الأخرى، المدعوّة لاعتماد وشرعنة “النظام القائم على القواعد”. لا يحتوي الميثاق الجديد على إشارات إلى هيئة الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ما يثبت، بشكل صارم، التزام الغرب الجماعي بالتزامات الناتو باعتباره “المركز الشرعي الوحيد لصنع القرار”، وفقاً لوصف الأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس راسموسن بشأن أهمية الحلف عام 2014، ومن الواضح أن هذه الفلسفة تشكّل أيضاً الأساس للتحضير لـ “قمة الديمقراطية” المذكورة.
كذلك فقد تم تحديد العقبة الرئيسية أمام تنفيذ المسار المعلن عنه في يونيو، وهما روسيا والصين، حاملتا مشعل الأوتوقراطية (حكم الفرد) /”الاستبداد”. ويتم تقديم مجموعتين من الشكاوى، بعضها خارجي مشروط، والآخر داخلي. أما الخارجية، فتتهم الصين بتعزيزها المفرط لمصالحها الاقتصادية (مشروع “حزام واحد-طريق واحد”)، وبناء قوتها العسكرية والتكنولوجية بشكل عام لتوسيع دائرة نفوذها. روسيا متهمة بانتهاج “سياسة عدوانية” في عدد من المناطق، وهو ما يتضح واقعياً في انتهاج موسكو لخط معارضة النزعات المتطرفة والنازية الجديدة في سياسات الدول المجاورة، والتي تقمع حقوق الروس، وكذلك الأقليات القومية الأخرى، وتجتث اللغة والتعليم والثقافة الروسية. كما لا يعجب الغرب أن موسكو تدافع عن الدول التي أصبحت ضحية للمغامرات الغربية، وتعرّضت لهجوم من الإرهاب الدولي، ومهددة بفقدان الدولة مثلما حدث في سوريا.
ومع ذلك، فإن التركيز الأساسي للمواقف الغربية المعلنة تتأسس على البنية الداخلية للدول “غير الديمقراطية”، وعلى تصميم الغرب على تغييرها وفقاً لأنماطها الخاصة، وتحقيق مثل هذه التغييرات في تنظيم الحياة الاجتماعية التي من شأنها أن تجعل هذه المجتمعات متوافقة مع رؤية واشنطن وبروكسل للديمقراطية. من هنا جاءت المطالبات لموسكو وبكين و(لأي دولة أو كيان آخر) باتباع الوصفات الغربية بشأن حقوق الإنسان والمجتمع المدني والمعارضة والإعلام وعمل هياكل الدولة، والتفاعل بين مؤسساتها. وبينما يعلن الغرب عن “حقه” في التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، بغرض غرس الديمقراطية كما يفهمها، يفقد اهتمامه بالحوار، حينما نقترح نحن مناقشة أهمية إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية، بما في ذلك التخلّي عن الغطرسة، والاستعداد للعمل استناداً لمبادئ القانون الدولي المعترف بها عالمياً، وليس إلى تلك “القواعد”. إن الغرب، من خلال زيادة العقوبات وغيرها من تدابير الضغط غير القانوني على الدول ذات السيادة، لا يغرس الديمقراطية، وإنما يغرس الشمولية في الشؤون الدولية، ويتخّذ موقفاً إمبريالياً واستعمارياً جديداً في علاقته بالدول الأخرى، بينما يقول لسان حاله: فلتطبقوا في الداخل نموذج الديمقراطية كما أراه، ولا تقلقوا بشأن الديمقراطية في الشؤون الخارجية، فنحن نقرر كل شيء عنكم، تصرفوا بهدوء، وإلا سنعاقبكم.
إن السؤال يطرح نفسه، على خلفية التغييرات العميقة على الساحة الدولية، التي تؤثر على الجميع دون استثناء، ولا يتوقع عواقبها أحد: ما هو شكل الدولة الأكثر فاعلية، ليس لأغراض تبشيرية، وإنما لتعضيد الجهود والوقوف أمام التحديات والتهديدات التي تواجه الجميع ولا يعرف حدودها أحد. في العلوم السياسية مؤخراً يتم إدخال موضوع مقارنة الأدوات المتاحة في “الديمقراطيات الليبرالية” و”الأنظمة الأوتوقراطية” تدريجياً (من المميز كذلك استخدام مصطلح “الديمقراطيات الأوتوقراطية”، المطروح بخجل حتى الآن).
لابد من الأخذ في الاعتبار هذه التنظيرات المفيدة، خاصة من جانب السياسيين الجادين الموجودين في السلطة. فالتفكير وتحليل ما يحدث لا يمكن أن يضرّ. إن تأسيس عالم متعدد الأقطاب هي حقيقة واقعة، ومحاولات تجاهلها، والتأكيد على وجود “مركز شرعي وحيد لصنع القرار” لن يقترب من تسوية المشكلات الحقيقة لا المختلقة، للتغلب عليها، حيث أنها تتطلب حواراً قائماً على الاحترام المتبادل بمشاركة الدول الرائدة، مع الأخذ في الحسبان مصالح جميع الأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي. وهذا يفترض اعتماداً غير مشروط على قواعد ومبادئ القانون الدولي المعترف به: احترام المساواة في السيادة بين جميع الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والتسوية السلمية للنزاعات، والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لا يمكن للغرب التاريخي الجمعي، الذي سيطر على الجميع لمدة 500 عام، ألا يتمكن من إدراك أن تلك الحقبة في سبيلها إلى الأفول، وأنها تذهب إلى غير رجعة، إلا أنه يرغب، في الحفاظ على مواقف مراوغة، وبشكل مختلق، لإبطاء هذه العملية الموضوعية لتشكيل عالم متعدد المراكز. من هنا تأتي محاولة إثبات قراءة جديدة للتعددية من الناحية الأيديولوجية، كما يتجلّى في المبادرة الفرنسية الألمانية لتعزيز “تعددية الأطراف الفعالة” Effective Multilateralism، والتي لا تتجسّد في التعددية العالمية لهيئة الأمم المتحدة، كما تم التأكيد على ذلك، وإنما تتجسد في المثل العليا وإجراءات الاتحاد الأوروبي، التي يتعيّن أن تكون نموذجاً يحتذى به لكل الدول والكيانات الأخرى.
ومن خلال طرحه لمفهوم “النظام العالمي القائم على القواعد” يهدف الغرب إلى إجراء نقاشات حول القضايا الرئيسية في صيغ مناسبة له، لا تتم فيها دعوة الأطراف المعارضة. فتقام “المنصّات” وتطرح “الدعوات” لمجموعة ضيّقة من أجل الاتفاق على وصفات في تلك الدوائر الضيقة لفرضها لاحقاً على أي دولة أخرى. تشمل الأمثلة على ذلك “الدعوة للأمن في الفضاء الإلكتروني”، “الدعوة لاحترام القانون الإنساني الدولي”، و”الشراكة من أجل حرية المعلومات”. وفي كل من هذه المنصات تشترك عشرات البلدان، تمثّل أقليّة في المجتمع الدولي. علاوة على ذلك، وبالتوازي توجد لجميع هذه القضايا منصات تفاوض عالمية في إطار هيئة الأمم المتحدة، ولكن يتم التعبير هناك، بطبيعة الحال، عن وجهات نظر بديلة، يجب أخذها في الاعتبار، والسعي حول توافق في الآراء، وهو ما لا يروق الغرب، الذي يسعى فقط لتأكيد “قواعده” هو وحده.
في الوقت نفسه، فلكل من هذه المنصات المكونة من “أصحاب التفكير البديل المماثل”، يفرض الاتحاد الأوروبي آليته الخاصة للعقوبات الأفقية، أيضاً دون أي اعتبار لميثاق الأمم المتحدة. خطوات العمل كالتالي: المشاركون في هذه “الدعوات” و”الشراكات” يقررون في دائرتهم الضيقة من ينتهك متطلباتهم في منطقة معينة، ويفرض الاتحاد الأوروبي فعلياً عقوبات على تلك الأطراف المذنبة. كم هو أمر مريح، أن تقوم بالاتهام، ثم تعاقب، ولا يتعين عليك الذهاب إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. والتفسير جاهز: لدينا “تحالف من أكثر التعدديين فعالية”، لذلك فنحن نعلّم الآخرين كيفية الاستفادة من أفضل الخبرات الرائدة. وفيما يتعلق بحقيقة أن تلك الممارسات غير ديمقراطية وتتعارض مع مبادئ التعددية الحقيقية، يوضح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كل شيء، خلال حديثه 11 مايو الماضي: إن التعددية لا تعني الحاجة إلى تحقيق الإجماع، ولا ينبغي أن يصبح موقف “المتقاعسين” عقبة أمام “الطليعة الطموحة” من المجتمع الدولي.
لابد من التأكيد هنا على أنه لا بأس في قواعد على هذا النحو، بل على العكس، فإن ميثاق الأمم المحتدة هو بالضبط مجموعة من القواعد، إلا أنها قواعد أقرّتها جميع دول العالم، وليس في إطار “لقاءات الأقارب” هذه.
عند التفكير في التقاليد اللغوية والأيديولوجية والمشاعر المختلفة للشعوب، من المناسب أن نتذكر كيف يبرّر الغرب توسع الناتو المتهوّر شرقاً حتى حدود روسيا. وعندما نذكّر بالتأكيدات التي أعطيت للاتحاد السوفيتي بأن هذا لن يحدث، يردّون علينا: حسناً، بعد كل شيء، لم تكن تلك سوى وعود شفهية، ولم يوقع أحد على أي وثيقة. لا تسري في الغرب أصول العادات الروسية القديمة، عندما يكفي التصافح بلا وثائق، وتعد الكلمة قسماً مقدساً يتم الوفاء به.
لعل من أخطر المسارات من بين الجهود المبذولة لاستبدال القانون الدولي بـ “القواعد” الغربية هو مراجعة تاريخ ونتائج الحرب العالمية الثانية، وقرارات محكمة نورنبرغ التي تعد أساس النظام العالمي الحديث. يرفض الغرب دعم مشروع القرار الروسي في هيئة الأمم المتحدة بشأن إدانة تمجيد النازية، ويرفض مقترحاتنا بإدانة هدم آثار محرري أوروبا. بل إنهم يريدون أيضاً خيانة الأحداث المصيرية في فترة ما بعد الحرب، مثل إعلان هيئة الأمم المتحدة لعام 1960، بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، الذي بدأته بلادنا. تريد القوى الاستعمارية السابقة محو ذكرى ذلك، واستبدالها باحتفالات مختلقة تم اختراعها على عجل، مثل الركوع قبل بدأ المباريات، في محاولة لصرف الانتباه عن المسؤولية التاريخية عن جرائم الاستعمار.
إن “النظام القائم على القواعد” هو تجسيد للمعايير المزدوجة للغرب. فعندما يكون الأمر مفيداً يتم الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصريها، بوصفه “القاعدة” المطلقة”. فباريس ولندن لا زالتا تمتلكان أراض مستعمرة في جزر مالفيناس، على بعد 12 ألف كيلومتر من بريطانيا العظمى، على الرغم من قرارات عديدة صادرة عن هيئة الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، ولا يعتزم أحد تحريرها حتى الآن. كذلك القرارات الخاصة بـ “استقلال” كوسوفو، في انتهاك صارخ لقرارات مجلس الأمن الدولي. وعندما يتعارض مبدأ تقرير المصير مع المصالح الجيوسياسية للغرب، كما في حالة التعبير الحر عن إرادة سكان القرم لصالح مصير مشترك مع روسيا، ينسى الغرب ذلك، ويدينون ذلك الاختيار بكل غضب، ويفرضون العقوبات على السكان جراء اختيارهم الحر.
يتجلى مفهوم هذه “القواعد” ليس فقط في انتهاك القانون الدولي، ولكن كذلك في انتهاك الطبيعة البشرية نفسها. ففي المدارس بعدد من الدول الغربية، يتم إقناع الأطفال كجزء من مناهجهم بأن يسوع المسيح كان مزدوج الهوية الجنسية. كما أن محاولات السياسيين العقلاء لحماية الأطفال من الدعاية للمثليين وثنائيي الجنس والمتحولين جنسيا LGBT، تواجه بالعدوانية الشديدة في “أوروبا المستنيرة”. هناك هجوم على أسس كل ديانات العالم، على الشفرة الوراثية للحضارات الرئيسية على هذا الكوكب. فقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها زمام المبادرة في التدخل الحكومي المفتوح في شؤون الكنيسة، ساعية بكل وضوح إلى تقسيم الأرثوذكسية العالمية، التي ينظر إلى قيمها بوصفها عقبة روحية كبيرة أمام المفهوم الليبرالي لإتاحة كل الأشياء بلا سقف.
إلا أن الملفت للنظر هو الإصرار، وحتى العناد الذي يستخدمه الغرب في فرض “قواعده”. من الواضح أن هناك اعتبارات سياسية داخلية، فمن الضروري أن نظهر للناخبين “الصلابة” في السياسة الخارجية فيما يتعلّق بـ “المعارضين المستبدين” عشية الدورات الانتخابية المقبلة (في الولايات المتحدة الأمريكية، يتم ذلك كل عامين، لم يعد هناك مجال للتأخير).
ولكن لا زالت هناك شعارات “الحرية والمساواة والإخاء” من بين الشعارات الغربية. حقاً، لا أعرف بشأن مدى صحة أو اللياقة السياسية لاستخدام مصطلح “الأخوة” في أوروبا (في سياق الجندرية الجديدة)، لكن أحداً لم يلغ “المساواة” حتى الآن. والغرب في دعوته إلى المساواة والديمقراطية داخل الدول، ومطالبة الآخرين باحتذاء النموذج الغربي، يرفض بشكل قاطع كما أسلفنا مناقشة قضايا ضمان المساواة والديمقراطية في الشؤون الدولية.
إن هذا النهج بصراحة غريب عن مثل الحرية. ووراء الشعور الدائم بالتفوق، إنما يظهر ضعف الغرب، والخوف من الدخول في نقاشات مفتوحة، لا مع أولئك الذين يوافقون فقط على المسار وينصاعون للخط المرسوم، وإنما أيضاً مع المعارضين، وأصحاب المعتقدات والقيم الأخرى، خلاف الليبرالية المتطرفة والمحافظين الجدد، ممن رضعوا مع حليب الأمهات حضارات موروثة من أجيال بعيدة من الأجداد، ينقلون عنهم التقاليد والإيمان.
إن قبول القدرة التنافسية للأفكار حول تطور العالم، أصعب بكثير من تأليف وصفات للبشرية جمعاء في إطار دائرة ضيقة (لا توجد بينها خلافات أساسية، وبالتالي من غير المرجح أن تتوصل للحقيقة هناك). والتوصل إلى اتفاق بشأن منصات عالمية يجعل الاتفاقات أكثر موثوقية واستقراراً، وقابلية للتحقق منها بشكل موضوعي.
في الوقت نفسه، فإن من يرسمون سياسة الاتحاد الأوروبي غالباً وبشكل متزايد هم أقلية عدوانية معاديين للروس، وهو ما تأكّد بالكامل في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل يومي 24 و25 يونيو الجاري، حينما جرت مناقشة آفاق العلاقات مع روسيا. فقد تم دفن مبادرة ميركل وماكرون لعقد لقاء مع بوتين قبل أن تولد. ويرى المراقبون أن الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال حقيقة القمة الروسية الأمريكية في جنيف، قد أعطت ما يشبه الضوء الأخضر لهذه المبادرة، إلا أن جمهوريات البلطيق وبولندا أوقفوا “الهواة” من برلين وباريس عند حدّهم، بل إن وزارة الخارجية الأوكرانية قامت بدعوة سفراء ألمانيا وفرنسا في كييف لشرح “أداء الهواة” هذا. وكانت نتيجة المناقشات في بروكسل تعليمات من المفوضية الأوروبية وإدارة السياسة الخارجية الأوروبية لوضع خطة عقوبات جديدة ضد موسكو، حتى دون الإشارة مقابل أي “خطايا” ارتكبتها روسيا، وإنما فقط وضع العقوبات من باب الاحتياط. وحين الرغبة في فرض العقوبات، لا شك أنهم سيأتون بشيء ما.
لا يعتزم الناتو ولا الاتحاد الأوروبي تغيير سياساتهما لإخضاع مناطق أخرى من العالم، والاضطلاع بمهمة تبشيرية عالمية كلفوا أنفسهم بها. فحلف الناتو يشارك بنشاط في تنفيذ استراتيجية “منطقة الهندي والهادئ” ذات “الهدف المعلن وهو احتواء الصين”، ما يقوّض الدور المركزي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا في إنشاء هيكل مفتوح لتعاون آسيا والمحيط الهادئ، الذي تعمل على إنشائه منذ عقود. يقوم الاتحاد الأوروبي بدوره بتطوير برامج من أجل “إعمار” المساحات الجيوسياسية المجاورة، وغير المجاورة، دون استشارة مضمون هذا “الإعمار” مع الدول المدعوة. هذه هي بالضبط طبيعة الشراكة الشرقية وبرنامج آسيا الوسطي الذي أقرّته بروكسل مؤخراً. إن مثل هذه الأساليب تتعارض بشكل أساسي مع كيفية قيام جمعيات التكامل بمشاركة روسيا، مثل رابطة الدول المستقلة، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والمجموعة الاقتصادية الأوراسية، ومنظمة شنغهاي للتعاون، بتنفيذ الأعمال التجارية، والتي تطور العلاقات مع الشركاء الخارجيين حصرياً على أساس الندية، والتكافؤ المتبادل بين الأطراف.
أما الموقف المتغطرس تجاه الأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي، فإنه يجعل الغرب على “الجانب الخطأ من التاريخ”.
فالبلدان الراسخة التي تحترم نفسها لا تسمح أبداً لأي من الأطراف بالتحدث إليها على أساس الإنذارات النهائية، ولا تسعى سوى إلى الحوارات النديّة المتكافئة بشأن أي من القضايا.
أما فيما يتعلّق بروسيا، فقد حان الوقت لفهم أن اللعب على مرمى واحد قد انتهى، وكل نوبات العواصم الغربية حول استعدادها لتطبيع العلاقات مع موسكو، لو تابت الأخيرة وغيّرت سلوكها، قد فقدت معناها، وأن كل المطالب أحادية الجانب بالقصور الذاتي من جانب الأوروبيين هو دليل على عجزهم عن تقييم ما يحدث بشكل كاف.
من المهم بشكل أساسي أن يفهم الغرب أن مثل هذه النظرة للعالم متجذّرة بقوة في أذهان الشعب الروسي، وتعكس آراء الغالبية العظمى من المواطنين الروس. أما أولئك المعارضين الذين “لا يقبلون” السلطة الروسية، ويعتمد عليهم الغرب، ويرون في أن كل مشكلات روسيا محورها “معاداة الغرب”، ويطالبون بتنازلات أحادية لجانب من أجل رفع العقوبات، والحصول على بعض الفوائد المادية الافتراضية، فإنهم يمثلون شريحة هامشية تماماً من مجتمعنا. وقد شرح فلاديمير بوتين، في مؤتمره الصحفي بجنيف، 16 يونيو الجاري، بوضوح الأهداف التي يسعى إليها دعم الغرب لمثل هذه الدوائر الهامشية.
إن تلك المعارضة تتعارض مع الاستدامة التاريخية للشعب الروسي، الذي اشتهر دائماً، خاصة في الأوقات الصعبة، بنضجه، وإحساسه باحترام الذات، والكرامة الوطنية، والقدرة على التفكير المستقل، في الوقت الذي يتمتع فيه كذلك بالانفتاح على بقية العالم على أساس من المساواة والمنفعة المتبادلة. تلك هي الصفات التي يتمتع بها الروس، بعد الارتباك والتذبذب في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما أصبح أساساً لمفهوم السياسية الخارجية لروسيا في القرن الحادي والعشرين. إنهم يعرفون كيف يقيّمون تصرفات قادتهم بأنفسهم، دون تعليمات من الخارج بهذا الشأن.
وبالنسبة لآفاق العمل في أروقة السياسة الدولية، فبكل تأكيد كان ولا زال وسيظل هناك زعماء في العالم، إلا أن عليهم التأكيد على سلطتهم من خلال الأفكار ومهارات القيادة، ولكن بقوة الإقناع، وليس من خلال الإنذارات. إن المنصة الطبيعية لتطوير الاتفاقيات المقبولة عموماً هي مجموعة العشرين على وجه الخصوص، والتي توحّد الاقتصادات الرائدة القديمة منها والجديدة، بما في ذلك كل من مجموعة الدول الصناعية السبع، ومجموعة البريكس، والدول ذات التفكير المتشابه. وتكمن إمكانات التوحيد القوية في المبادرة الروسية لتشكيل شراكة أوراسية من خلال تضافر جهود جميع البلدان والمنظمات في القارة.
ومن أجل إجراء حوار صادق حول المشكلات الرئيسية للاستقرار العالمي، اقترح الرئيس فلاديمير بوتين عقد قمة لزعماء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تتحمل مسؤولية خاصة في الحفاظ على السلام والاستقرار الدوليين على هذا الكوكب.
من بين مهام إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية وإرساء واقع النظام العالمي متعدد المراكز إصلاح مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة، والذي يجب تعزيزه على حساب دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإنهاء هيمنة التمثيل الغربي الجماعي في هذا الجهاز الرئيسي التابع للهيئة.
وبغض النظر عن بعض الطموحات والتهديدات هنا وهناك، فإن بلادنا ستستمر في اتباع سياسة خارجية مستقلة وذات سيادة، في الوقت الذي نقترح فيه دائماً أجندة موحّدة فيما يتعلق بالشؤون الدولية، تستند إلى حقائق التنوّع الثقافي والحضاري للعالم الحديث. أما المواجهة، ومهما كانت الدوافع، فليست خيارنا. وقد أكّد فلاديمير بوتين، في مقالته بعنوان “أن تكون منفتحاً على الرغم من الماضي”، والتي نشرت 22 يونيو الجاري، على أنه “لا يمكننا ببساطة تحمّل عبء سوء الفهم والضغائن والصراعات الماضية” ودعا إلى أمن بدون حدود فاصلة، وفضاء للتعاون المتكافئ والتنمية الشاملة.
لقد تمّ تحديد هذا النهج مسبقاً من خلال تاريخ روسيا الممتد عبر ألف عام، ويتوافق تماماً مع تحديّات اللحظة الحالية في تطوّرها. سنستمر في تعزيز خلق ثقافة التواصل بين الدول، والتي من شأنها أن تقوم على أرفع قيم العدالة، وتسمح للدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء بالتطور في سلام وحرية.
إننا منفتحون دائماً أمام الحوار الصادق مع كل من يظهر استعداداً متبادلاً، من أجل إيجاد توازن في المصالح، على أساس متين لا يتزعزع من القانون الدولي. وتلك هي قواعدنا.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
المصدر:RT