القمة الروسية الأميركية والتهدئة في سورية

القمة الروسية الأميركية والتهدئة في سورية

اختلفت التقييمات حول نتائج القمة الأميركية الروسية الأخيرة في جنيف، وكالعادة التي تجري عليها الأمور في منطقتنا تراوح التقييم بين متفائل بنتائج القمة، وآخر متشائم كأنها لم تكن، وتنبع هذه التقييمات من أمنيات أكثر منها استناداً إلى وقائع ملموسة ومعلومات موثقة عن القمة.

من نافل القول أن القمة بين الرئيسين الروسي والأميركي التي عقدت الأسبوع الماضي خرجت في سياقها العام وفي شكلها النهائي بنتيجتين رئيستين:

الأولى: ضبط إيقاع الخلاف وتدهور العلاقات بين البلدين، ومنع هذه العلاقات من التدهور أكثر، أي إن سلاماً بارداً نشهده اليوم بالمعنى الحرفي للكلمة، وضمن سياق هذا السلام، تم الإعلان عن تمسك البلدين «بالاستقرار الإستراتيجي» وإطلاق العمل على وثيقة مشتركة في هذا الإطار، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاستقرار الإستراتيجي يتعلق بالتمسك بالاتفاقات التي تضبط سباق التسلح النووي والصواريخ بعيدة المدى التقليدية منها وغير التقليدية.

الثانية، الإعلان عن عودة سفيري البلدين إلى مقري عملهما في سفارات بلديهما، وهذا تطورٌ يخدم محاولات واشنطن وموسكو العمل على فرملة عملية تدهور العلاقات بين البلدين.

التقييمات حول القمة ونتائجها تنسحب في تناقضاتها بين مرحب ورافض لها على الملف السوري الذي استحوذ اهتمام المراقبين بشكلٍ لافت، وعند انتهاء القمة بدأت المقالات التي تتحدث عن رفع قانون قيصر وتسريبات تروج لطلب روسي لانسحابٍ أميركيٍ من سورية، فهل هذا ما حصل فعلاً؟

الناطق باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف قال حرفياً: «إن بوتين وبايدن ناقشا الاتصالات بين العسكريين الروس والأميركيين في سورية، وهذا الحوار مهم جداً ويجب دعمه»، هذا على المستوى الرسمي.

أما وكالات الأنباء فقد نقلت عن دبلوماسي غربي قوله: «تعطي قمة جنيف الضوء الأخضر لاستمرار الحوار الروسي الأميركي في فيينا الذي توقف في تموز الماضي، لبحث ملفات عدة، هي: أولاً، استمرار الترتيبات العسكرية شرق الفرات لـمنع الصدام ومحاربة المتطرفين شرق سورية وفي البادية، وأن تدفع موسكو دمشق، وأن تشجع واشنطن قوات سورية الديمقراطية، على الحوار. ثانياً، إقناع دمشق للإجابة عن أسئلة منظمة حظر السلاح الكيميائي بموجب اتفاق روسي أميركي في 2013، مقابل استعادة الحكومة لامتيازاتها بالمنظمة.

ثالثاً، توفير أرضية لتمديد العمل بالقرار الدولي الخاص بالمساعدات عبر الحدود الذي تنتهي صلاحياته في 11 تموز المقبل».

إن المشترك بين التصريحين السابقين الرسمي الروسي، والآخر من مصدر غربي، هو وجود اتفاق على الحوار في المسألة السورية وعدم وضعها في خانة الملفات الخلافية التي برزت في لقاء بوتين بايدن، وهما ملف روسيا البيضاء، وملف أوكرانيا، وعليه فإن اعتبار الملف السوري ملفاً قابلاً للنقاش بين الجانبين الروسي والأميركي، ويمكن البناء عليه ناتجٌ عن عدة أسباب أهمها:

أولاً، طبيعة الوجود العسكري الروسي في سورية، تلك الطبيعة الشرعية المستمدة من دعوة الحكومة السورية للقوات الروسية بوجودها على أراضيها، على عكس الاحتلال الأميركي غير الشرعي في شرق الفرات، كما أن هذا الوجود بات محط إجماع دولي على شرعيته.

ثانياً، التفاهمات الروسية الأميركية ومحورية استمرار التواصل بين الدولتين على الأرض السورية، هو حاجةٌ أميركيةٌ بالدرجة الأولى، وبغض النظر عن خطط واشنطن للبقاء والاستمرار في احتلالها ما أمكنها ذلك، فإن ضمان الاستمرار في التواصل بين العسكريين الروس والأميركيين هو حاجة أميركية نظراً لقلة عدد العسكريين الأميركيين في سورية، وهذا أمر في غاية الأهمية وأشار بيسكوف إليه في معرض حديثه عن سورية.

ثالثاً، التطورات في المنطقة التي تبدو اليوم أنها أقرب لمصلحة محور المقاومة تلعب دوراً هي الأخرى في نزوع واشنطن إلى مزيدٍ من الليونة في الملف السوري، بدءاً من التفاوض حول النووي الإيراني، مروراً بالوضع غير المستقر للوجود الأميركي في العراق، وليس انتهاءً بالالتزامات التي يمكن أن تنتج عن أي اتفاق أميركي إيراني في المحادثات حول النووي الإيراني، تلك الالتزامات التي ستصب حتماً في خانة ضمان أمن المنطقة وصياغة ترتيبات عامة تضبط الحركة فيها، في ضوء التوجه الأميركي نحو آسيا والمحيط الهادي، وهنا لا بد أن نشير إلى أن سحب بطاريات صواريخ «باتريوت» و«ثاد» من بعض دول الخليج العربي، ليس أمراً منفصلاً عن تطورات التفاوض مع إيران حول ملفها النووي، ولا حتى عن بعض التفاهمات في القمة الروسية الأميركية.

رابعاً، الوجود الأميركي في سورية ليس وجوداً إستراتيجياً، كما هو الحال في العراق، وحتى ملفات الصراع الروسي الأميركي التي يصنف الملف السوري ضمنها، لا يحتل أهمية فيها كالملف الأوكراني، وملف تمدد الناتو على حدود روسيا، ولا حتى ملف روسيا البيضاء، وبالتالي فإنه ملفٌّ يمكن تحقيق بعض التقارب حوله.

كل ما سبق يشير إلى إمكانية حدوث تقاربٍ روسيٍ أميركيٍ في الملف السوري، وهذا حاجة أميركية من جهة تمليها اعتبارات خاصة برؤية الإدارة السورية ودورها، وثانياً، حاجة مرتبطة بحركة السياسات الأميركية في المنطقة والإقليم، والرؤية الأميركية لتوازن القوى الحالي في المنطقة، لكن ما حدود هذه التفاهمات؟ هل تشمل قانون قيصر؟ هل تعني الانسحاب من سورية؟

المشكلة في من يتمنى وينشر أمنياته على شكل عناوين تؤثر في توجهات الرأي العام، وتفرغ أي إنجازٍ حقيقي وملموس من مضمونه، فالأمور لم تصل إلى الحدّ الذي يلغى فيه قانون قيصر، ولا حتى انسحاب الولايات المتحدة من سورية، حيث لا تزال الخلافات الروسية الأميركية مستمرة في الملف السوري، وإدارة بايدن لا تزال مستمرة في التجييش السياسي والإعلامي حول معركة التجديد للمعابر غير الشرعية في سورية والتي سيشهدها مجلس الأمن الشهر القادم، ولا تزال تربط أي تقدمٍ تفاوضي في الملف السوري مع موسكو بامتناع الأخيرة عن استخدام الفيتو في مجلس الأمن، والتمديد لمعبر «باب الهوى» غير الشرعي على أقل تقدير، وذلك لجملة أسباب، تبدأ بالحفاظ على دورٍ سياسيٍ أميركي وغربي أممي في المنطقة الواقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي وميليشياته في شمال غرب سورية، مروراً باستمرار تمويل نشاط الجماعات الإرهابية وعلى رأسها «جبهة النصرة» الإرهابي عبر واردات معبر «باب الهوى»، ولا تنتهي عند شرعنة عدم الاعتراف بسيطرة الدولة السورية على جميع أراضيها أممياً عبر الإصرار على بقاء معابر مشرعنة أممياً تكرس الفصل التعسفي لهذه المناطق عبر الحضور العسكري الميداني للاحتلالات على أرض سورية.

سورية ملفٌّ توافقي يمكن العمل عليه بين واشنطن وموسكو، هذه هي الخلاصة الرئيسية، وهذا الملف مرتبط بدوره بملفاتٍ إقليمية ودولية أكثر أهمية تحدد مساره في الفترة المقبلة، ولعل التهدئة اليوم تصب هي الأخرى في خانة انتظار هذه التطورات، فضلاً عن انتظار ما ستسفر عنه معركة المعابر بين روسيا والصين من جهة والمحور الغربي من جهةٍ أخرى في مجلس الأمن الدولي الشهر القادم.

د.عامر نعيم إلياس – الوطن السورية