الفلاحون يحصدون الخيبة من “عام القمح”.. أراض قاحلة ومراكز فارغة ولا مفرّ من الاستيراد

بين مناخ جاف ودعم شحيح، ضاع “عام القمح”، ولم يحصد منه الفلاح سوى الخيبة، فالضخ الكبير والتحفيز طيلة العام لزراعة كل شبر، وزيادة المساحات المزروعة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، اصطدم بعوائق عديدة، أولها انحباس الأمطار، والجفاف الذي لم يحدث منذ 40 عاماً، وأصاب جميع المحافظات على حد سواء، ما أخرج 700 ألف هكتار من أصل 800 ألف من الأراضي المزروعة بعلاً بالقمح، وذهبت الخطط أدراج الرياح.

الموسم المنكوب لا يقتصر تراجعه على الظروف الجوية التي بات اتهامها أسهل الطرق للتملّص من التقصير، وإن سلّمنا بخروج المساحات البعلية لانحباس الأمطار، فماذا عن تلك المروية التي سارع الفلاحون لزراعتها استجابة للوعود بعام القمح، وتقديم كل الدعم لهم، ليفاجؤوا فيما بعد بأن الخطة تقع على أكتافهم وحدهم، فلا السماد تم تأمينه، ولا المحروقات، ولا المياه، ولا التكاليف، والمحصلة كانت: “دبروا حالكم نحن محاصرون”!.

ازرعوا بكل الأحوال!

قبل أشهر من بداية الموسم، وفي مجلس اتحاد الفلاحين، قالها الفلاحون، صراحة، لوزير الزراعة: “نحن قمنا بواجبنا وزرعنا كامل المساحات، فأين السماد الذي وعدنا به؟”، وكان رد الوزير بأن الحصار والعقوبات حدّا من وصول السماد، وسينعكس هذا على المحصول، لكن هذا لا يعني أن تتوقفوا عن الزراعة!”، وها هي النتائج اليوم واضحة في الأراضي الجرداء، ومراكز الاستلام الفارغة، وخسائر الفلاحين الذين زرعوا دون نتيجة.

تغطية النقص

مع التكاليف العالية التي تتكبدها الجهات الحكومية لاستيراد القمح، والتي تتجاوز 400 مليون دولار، كان التعويل كبيراً جداً على “عام القمح” ليحقق ولو جزءاً بسيطاً من الاكتفاء، وينعكس على تأمين الغذاء الأساسي بسلاسة وجودة للمواطنين، إلا أن ضعف الموسم أعادنا إلى حل الاستيراد ليغطي النقص الحاصل، ويؤمن المادة للاستهلاك، ولرفد المخازين الاستراتيجية، ويبدو من الأرقام الصادرة حتى الآن أن الإنتاج المحلي لن يكفي سوى مدة قصيرة، مع الإشارة إلى تأكيد رئيس الحكومة وطمأنته بأن المخزون اليوم يكفي حتى نهاية العام.

تكاليف إضافية

قبل تكشّف واقع الموسم الحالي بوضوح، وخلال المؤتمر السنوي للحبوب، كانت الحكومة قد اتجهت لدعم الفلاح عبر رفع سعر الشراء إلى 900 ليرة بعد حساب التكاليف على أساس “السوق السوداء”، وليس الأسعار المدعومة، وذلك للتشجيع على تسليم الكميات كافة إلى مراكز المؤسسة السورية للحبوب، إلا أن فقدان المحروقات والسماد، واستغلال بعض المحتكرين للفلاحين، وضعف الإنتاج في وحدة المساحة، كل ذلك زاد من التكاليف، لتتوالى المطالب الملحة اليوم إلى رفع السعر مجدداً إلى حدود 1400 ليرة حتى يسترجع الفلاح تكاليفه.

رئيس اتحاد الفلاحين أحمد إبراهيم اعتبر أن الأسعار مقبولة، تاركاً الأمر لما تقرره الحكومة، فيما يرى مدير السورية للحبوب يوسف قاسم أن الأسعار حينها وضعت بعد دراسة لكافة التكاليف، وهي تعتبر جيدة وملائمة نظراً للتكلفة، ولكن من الطبيعي- مقارنة بتكاليف المعيشة- أن تعتبر قليلة، موضحاً أن موسم هذا العام ضعيف وسيىء، فالمساحات البعلية خرجت من الحسابات في أغلب المحافظات، باستثناء بعض المناطق في محافظة حماة، أما المساحات المروية فقد افتقرت للسماد والمحروقات، ما خفّض الغلة بوحدة المساحة، وفي محافظة الحسكة، يضيف قاسم، جعل ضعف الإنتاج أغلب الفلاحين يحتفظون بالكميات المنتجة لديهم للاستهلاك الشخصي، وللزراعة في الموسم المقبل، وبذلك تعد الكميات المسوقة هناك قليلة جداً، وحتى في المراكز التي افتتحتها الميليشيات المسلحة، لم يتم تسليم كميات كبيرة، وفي الجزيرة تمنع حواجز ميليشيات “قسد” العميلة عبور أية سيارة أقماح إلى المراكز الحكومية.

التحضيرات

عمليات استلام القمح بدأت عملياً في 25 أيار عبر 46 مركزاً، وتم تخصيص 450 مليار ليرة كدفعة أولى، وهنا يبيّن قاسم أنه صُرف 200 مليار حتى الآن، والباقي يتم توزيعه على المحافظات، موضحاً أن المؤسسة تحمّلت أجور النقل منذ بداية الموسم من مناطق الإنتاج وفق شهادات المنشأ إلى مراكزها وفق تسعيرة المكتب التنفيذي بكل محافظة، وحسب المسافة التي تقطعها الآلية، كما تم التوجيه خلال مؤتمر الحبوب لوزارة النفط والثروة المعدنية لتأمين المحروقات اللازمة للحصادات وآليات النقل بالسعر الرسمي بإشراف المحافظين، والطلب من وزارة الداخلية وجود دوريات وضابطة عند كل مركز لمعالجة أية إشكالية يمكن أن تنجم بين الموردين أو الفلاحين.

استدراك

ومع بداية التسويق، كان اعتماد سقف الأجرام والشوائب لغاية 16% بالشكل العادي، وما بين 16% إلى 23% يتم حسم 5% من قيمة الأقماح الموردة بدل أجور غربلة، وكانت المؤسسة تبيع كيس الخيش الجديد بـ 4000 ليرة، والمستعمل بـ 2000 ليرة، ويسترجع الفلاح قيمتها عند إعادتها، أما من لم يأخذ الأكياس من المؤسسة فيستعيد المبلغ وفق أسعار السنة الماضية، أي 2000 ليرة للجديد، و1000 ليرة للمستعمل، إلا أن رئيس مجلس الوزراء وافق مؤخراً على توصية اللجنة الاقتصادية لاستلام كافة الكميات الواردة إلى مراكز الحبوب، وتسليم الكميات المرفوضة إلى مندوبين من مؤسسة الأعلاف ضمن المراكز، بحيث تتحمّل المؤسسة العامة للأعلاف نفقات تخزينها وأجور تنزيلها، إضافة إلى تعديل أجور الغربلة للأقماح (النموذج) أجرام بين 16 – 23% لتصبح على عاتق المؤسسة السورية للحبوب، وليس على عاتق الفلاح، وإعادة قيمة الأكياس- الجديدة والمستعملة- المستلمة للفلاح بالسعر الحالي المعتمد لدى المؤسسة السورية للحبوب، بغض النظر عن الجهة التي قام الفلاح بالشراء منها طالما أنها من النوعية التي تتعامل بها المؤسسة.

ويرى رئيس اتحاد الفلاحين أن رفع أجور الغربلة عن الفلاحين خفف تكاليف كبيرة عليهم، ودعمهم بشكل جيد، وكذلك استلام كافة الأقماح وصرف ثمن الأكياس، مبيّناً أن هذه الإجراءات للتسهيل على الفلاح، ولا تتعلق بموضوع رفع السعر من عدمه، مؤكداً أن اتحاد الفلاحين موجود بكل اللجان، ومندوبه يضمن عدم رفض أية كمية مسلّمة، فيما أوضح قاسم أن القرار ينطبق على كافة الكميات لهذا الموسم، أي أن المؤسسة ستعمل على إعادة كل ما تم حسمه من الفلاحين الذين سلّموا قبل القرار، مضيفاً أنه لدى المؤسسة اليوم 9 ملايين كيس متوفرة بكل المراكز، وهو عدد كاف لهذا الموسم، وربما الموسم القادم.

أرقام خجولة

وبحسب مدير السورية للحبوب فإن إجمالي المشتريات لهذا التاريخ توزع ليكون 3% منها درجة أولى بقيمة 900 ألف ليرة، و40% درجة ثانية بقيمة 892 ألف ليرة، و35% درجة ثالثة، و20% درجة رابعة بين 753 و875 ألفاً، و1.7% درجة النموذج، و6 بالألف ما تم رفضه وتحويله للمؤسسة العامة للأعلاف، علماً أن الدرجة الأولى والثانية والثالثة تحوّل للمطاحن فوراً، أما الرابعة والنموذج فيتم غربلتهما ثم توريدهما للمطاحن.

بدوره يكشف إبراهيم أن الكميات المسلّمة هي 200 ألف طن فقط، وأكثرها في حماة وحلب، حيث سوق 100 ألف طن في حماة، و70 ألفاً في حلب، أما الجزيرة، سلة الغذاء السورية، فلم يتم استلام ولا حبة قمح واحدة منها.

وكما كل عام، هناك من يستغل الظروف من التجار لشراء إنتاج القمح مقابل 1500 ليرة تقريباً، معتمدين على ما تم رفضه من المؤسسة في بداية الموسم، وحاجة الفلاح للبيع بسعر مرتفع، وأكد قاسم أن التشدد الذي تم في هذا الموسم، واعتماد شهادة منشأ للتوريد، واللجان المشكّلة، كل ذلك حد من دخول التجار للغش والتدليس.

تخزين

وعلى مستوى التخزين، فبعد أن وصلت طاقة “الدوكما” التخزينية إلى 5 ملايين طن قبل الحرب، ها هي تقتصر اليوم على 400 ألف طن موزعة على 5 صوامع بيتونية، و115 ألف طن على 9 صويمعات معدنية بعد إدخال صويمعتين جديدتين هذا العام في الخدمة، واحدة في ريف الرقة (دبسي عفنان)، والأخرى في ريف حلب بعد تجميعها من ثلاثة مواقع مخربة وصيانتها، مع إضافة بعض المعدات، وهنا لفت قاسم إلى الأثر الإيجابي لوجود الصويمعات الجديدة، وإمكانية استلام الأقماح “دوكما” من الفلاحين، مبيّناً أن أغلب الاستلام اليوم يتجه للدوكما، ماعدا محافظتي الحسكة ودير الزور، حيث يتم الاستلام فيهما بشكل “مشول”.

بدائل

وبالعودة إلى الحلول البديلة، يشير قاسم إلى إبرام عقود لمليون طن منذ بداية العام، وهي قيد التنفيذ الآن، حيث استوردنا 750 ألف طن حتى الآن، ولن يتم إبرام عقود جديدة قبل انتهاء الموسم، وتكشف الأرقام بشكل فعلي، وهنا تجدر الإشارة إلى السماح لتجار القطاع الخاص باستيراد الطحين منذ آذار 2020، وقد صرح مسؤولو “التجارة الداخلية” حينها بأن هذا القرار سيخفّض سعر الخبز السياحي، ومنتجات الأفران الخاصة، فماذا قدم التجار منذ عام وحتى اليوم سوى ارتفاع الأسعار ونقص المادة؟.

في المحصلة، لم يعد ينتظر الفلاح اليوم سوى تعويض مناسب حتى يسترد تكاليفه، ويتمكن من التحضير للموسم المقبل الذي يأمل الجميع أن يخطَّط له بدقة هذه المرة، ولا يُفاجأ المسؤولون بالحصار وصعوبة توفير السماد والمحروقات كما كل عام!.

البعث