تبحث تركيا في نطاقها الإقليمي عن فرصة حقيقية للوجود والانطلاق إلى مناطق أخرى.
وهو ما جرى منذ سنوات قبل وبعد التدخل التركي في العراق وسوريا وفي ليبيا، وفي عدة بقاع بالقرب من مناطق التماس العربي، خاصة مع استمرار احتلالها لأراضٍ عربية ورفضها التعايش انطلاقاً من أنها دولة جوار.
والواقع أن سياسة حزب العدالة والتنمية تعمل انطلاقاً من خبرات متراكمة ومساعٍ متمددة للوجود والهيمنة الرئيسية على طول المناطق الاستراتيجية العربية – العربية والعربية – التركية، وهو ما برز في تعاملها مع الحالة السورية، واستمرار تدخلها في أمن الخليج العربي، وفي المنطقة المغاربية، الأمر الذي يؤكد أن السياسة التركية، وبصرف النظر عن إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان مسعاه لتصفية خلافاته العربية، وبدء مرحلة جدية مع الدول العربية مثل مصر والخليج العربي، وفي إطار الدعوة لتصفير المشاكل وبدء مرحلة جديدة قوامها السلام والاستقرار توصف بأنها سياسة تدخلية توسعية، ولا تعمل على أساس قاعدة المصالح المشتركة اعتماداً على قواعد جديدة يعمل عليها الرئيس التركي أردوغان الذي يواجه بالفعل أزمة سياسية داخلية، وصراع التيارات المتنافسة داخل حزب العدالة والتنمية، وتصاعد مد قيادات الحزب ومفكريه، إضافة لفاعلية الحركة الراهنة من قوى المعارضة، التي عبّرت عن وجودها في تصريحات أحمد داود أوغلو، وكذلك الحضور السياسي اللافت لعلي باباجان، وهو ما يقلق الرئيس أردوغان في محيطه الداخلي، ويدفعه للحركة في مسارات متعددة، وفي اتجاهات مختلفة للعمل على إعادة تقديم الوجه الآخر للسياسة التركية الأكثر نفعية، ودون أن يقدم تنازلات مبدئية حقيقية ربما تكون تفسيراً مباشراً عما يجري في نطاق العلاقات الراهنة مع الدول الرئيسية في الإقليم.
ولهذا، يتطلع الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الدخول في مفاوضات شاملة مع الدول العربية الرئيسية برغم كل ما يقوم به من توجهات وأفعال لا تتسق مع دعوته، متصوراً أن لديه الخبرات الكافية للتعامل والمراجعة، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة حقيقية، خاصة أن المناكفة التركية لا تزال قائمة، ولن تتراجع إلا بعد ضغوطات حقيقية ومحاصرة شاملة، وعدم التعامل وفق سياسة ملف مقابل ملف، وهو ما يدركه الجانب العربي سواء كانت مصر أو دول الخليج العربي، خاصة أن الصراع الراهن في إقليم شرق المتوسط يتطلب بالفعل تنازلات تركية حقيقية إن أرادت العمل انطلاقاً من قواعد القانون الدولي، والإطار الأشمل للعلاقات الدولية، وهو ما لا تدركه السياسة التركية الراغبة في تحقيق أعلى المكاسب في محيطها والعمل وفق قاعدة “الشقيق الأكبر”، وهو ما يرفضه الجانب العربي.
فمصر لن تسمح للجانب التركي بالتمدد في المنطقة المغاربية، بل ستستمر في محاصرة حركتها في ليبيا، والكف عن التدخلات في إقليم شرق المتوسط وفق حسابات تسلطية تتمثل في عدم الاعتراف بقبرص، ولا شبه جزيرة كريت والاستمرار في مواجهة اليونان، بل والتنقيب في أعالي المناطق بالقرب من مناطق الآبار في المتوسط، وفقاً لمفهومها للجرف القاري والمناطق الاقتصادية، وغيرها من المفاهيم الخاطئة التي تتبناها وتتعامل من خلالها، إضافة لاستمرار تعاملها مع ليبيا وفقاً لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يؤكد أن تركيا مطالبة بأن تغير سلوكها السياسي والاستراتيجي، وأن تدخل في مقايضات سياسية حقيقية على أساس قاعدة الأمن للجميع والمصالح يجب أن تشمل كل الأطراف، وليس طرفاً واحداً، وهو ما يجب أن يحدد على أسس ومبادئ يتفق عليها الجميع، فإذا كانت إيران ومشروعها الإقليمي الخطير مسبباً رئيسياً للأمن القومي العربي، فإن تركيا تمثل أيضاً خطراً يجب التعامل معه، ومحاولة تحييده بجهد عربي وتوافقات عربية حقيقية تدفع للتعامل مع تركيا وفق رؤية أكثر حزماً، ومواجهة مخطط الأناضولية الجديدة والعثمانية التوسعية في العالم العربي، وفي مراكز الوجود التركي التاريخية والتي كانت تتحكم في مصائر شعوب المنطقة، وفرضت عليها الولاية العثمانية لسنوات طويلة، إذ من الواضح أن حنين الرئيس أردوغان لهذه المرحلة كبير.
ومن المستبعد أن يتراجع عن هذا المخطط ما لم تكن هناك ضغوطات مقابلة ومواقف مباشرة، خاصة أن تصفير المشاكل ليس فقط معناه الانخراط في علاقات مباشرة، وبدون التوصل لآليات حقيقية لمراجعة السياسات الراهنة، حيث لا يمكن التصور أن تقدم الدول العربية على فتح صفحة مع تركيا في ظل ما يجري من سياسات دافعة بقوة لمراجعة أسس العلاقات مع النطاقات العربية بأكملها، ومع كل دولة عربية على حدة وما ينطبق على سوريا والعراق قد لا ينطبق على مسارات العلاقات المقترحة مع مصر أو السعودية، وهو ما تدركه السياسة التركية، حيث لا يمكن أن تتم مصالحة مع مصر في ظل وجودها المهدد للأمن القومي المصري في ليبيا.
ولا يمكن مراجعة التدخلات التركية في سوريا بدون أن تخرج تركيا من مناطق وجودها الراهن، فالأمر يرتبط بضرورة إتمام تركيا مراجعة جوهرية لسياساتها الخارجية، وألا تكتفي بالخطاب السياسي والإعلامي الموجه الذي يخلو من أفعال حقيقية، الأمر الذي يتطلب تحرك الدول العربية المركزية لإحياء مسارات العمل العربي المشترك من خلال صيغ جديدة، ومنها التنسيق الثلاثي المصري الأردني العراقي، والمسعى إلى تحالف المشرق العربي، ليعمل بجوار مجلس التعاون العربي الذي يستعيد حيويته بعد نجاح قمة العلا في تحقيق العديد من المكاسب، مما يعني أن مؤسسات العمل العربي المشترك قادرة على العودة لمواجهة أي مخطط يستهدف التدخل في الشأن العربي ليس من تركيا فحسب، بل ومن إيران وغيرها، فالعالم العربي لديه مقومات وركائز حقيقية للتوافق، وهو ما لا تريده هذه القوى الإقليمية التي تدفع لمزيد من التغلغل، لتكريس سياسة الحضور الإقليمي، ولعل هذا ما تقوم به تركيا.
ومن ثم فإن التعامل العربي مع تركيا سيتطلب مساراً استراتيجياً عربياً تحدده الدول الرئيسية في النظام الإقليمي العربي على أساس أن تدشين علاقات حقيقية مع تركيا يتطلب رؤية سياسية متبادلة وقراءة واعية بحجم المتغيرات والضغوطات التي تتعرض لها السياسة التركية، ويتطلب استثمارها عربياً وإقليمياً.
العين الإخبارية – المقال يعبر عن رأي الكاتب