يفتح التصريح الفاضح للرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي قال فيه إنه يعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قاتلاً، مرحلة نوعية جديدة في المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
من ناحية، يمكن الافتراض أن مثل هذا التصريح هو أحد أعراض خرف الشيخوخة لدى الرئيس الأمريكي، والذي أدى من قبل مراراً وتكراراً إلى عدد من الفضائح المسلّية، مثل تلك الواقعة التي نسي فيها بايدن اسم وزير دفاعه، واسم “البنتاغون”، على سبيل المثال لا الحصر. ولتجنب مثل هذه الفضائح تحاول إدارة الظل إبعاد الصحفيين عن الرئيس. وقد وافق بوتين على هذا التفسير للواقعة، متمنيّاً لبايدن صحة جيدة.
من ناحية أخرى، هناك شك في أن الإدارة الأمريكية الحالية تدرك حقاً الوزن والتداعيات المحتملة لهذا المسار. ولكن في العادة، فإن مثل هذه التصريحات تعقبها مباشرة عمليات عسكرية للأطراف، ولكن الحديث عن “القاتل” بوتين، ثم التصريح في الجملة التالية بأنه، بايدن، “لا يزال مستعداً للتعاون معه في القضايا التي تهم الولايات المتحدة الأمريكية”. أجد نفسي هنا مضطراً إلى الشك في القدرات العقلية للرئيس الأمريكي، إذا كان ينتظر بعد هذه الكلمات الموجهة إلى بوتين، أي نوع من التعاون مع روسيا.
لطالما عاش المجتمع الأمريكي حالة من الهيستيريا بشأن “التهديد الروسي”، ولكن هذه الهيستيريا الآن وصلت إلى إدراك مشوّش بالكامل للعالم الواقعي الذي نعيش فيه، ولقدرات الولايات المتحدة الأمريكية. في الأيام الخوالي، كانت النخب الأمريكية ذكيّة بما فيه الكفاية لعدم السماح للدعاية الخاصة بها بتحديد السياسة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، إلا أن ذلك الآن أصبح أمراً من الماضي.
في الوقت نفسه، لم يكن سؤال الصحفي لبايدن سؤالاً اعتباطياً، وكانت إجابة بايدن طبيعية، استناداً للدرجة التي وصلت لها الهيستيريا المعادية لروسيا. يبدو أن المعركة الداخلية في أمريكا لن تهدأ، وتعتزم إدارة بايدن الاستمرار في استخدام “الورقة الروسية” بنفس القوة ضد ترامب وأنصاره الذين يرفضون الموت سياسياً.
بطريقة أو بأخرى، وبغض النظر عن أسباب هذه الفضيحة، فما هي العواقب؟
أولاً، كانت النتيجة الفورية هي استبعاد بايدن، وبالتالي، الولايات المتحدة الأمريكية من مناقشة مشكلات العالم التي تشارك فيها روسيا. أو بمعنى أصح، رفض بوتين التواصل مع بايدن إلا في العلن. فعلى ما يبدو لم يكن بايدن قادراً على التواصل مع الرئيس الروسي على نحو طبيعي، لذلك فمن غير المرجّح أن توافق واشنطن على فضح الحالة العقلية المذلّة لرئيس الولايات المتحدة على هذا النحو.
ثانياً، بإمكاننا الآن أن نهنئ دونالد ترامب، فالرئيس الحالي لا يتابع مساره في تقليص المشاركة الأمريكية في الشؤون الدولية فحسب، وإنما يتسارع هذا الانسحاب من مناطق مختلفة من العالم. وأعتقد أن روسيا ستساعد في هذه العملية بكل ما في وسعها.
لم يتم الحفاظ على مسار ترامب الاستراتيجي نحو الحرب بوصفها الطريقة المثلى للحفاظ على الهيمنة العالمية الأمريكية، بل يتم تعزيز هذا المسار. لكن الاختلاف الوحيد هو أن ترامب كان ذكياً بما فيه الكفاية ليأمل في تحويل روسيا إلى حليف في معركة الولايات المتحدة مع الصين، بينما قرر بايدن، قبل معركته مع الصين، أن يتورط مع القوة الوحيدة في العالم القادرة على تدمير الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لا تقهر بالنسبة لها.
بالطبع، فإن روسيا إلى حد ما تتحمل مسؤولية مثل هذه الوقاحة، فأسلوب الرئيس بوتين هو أن بإمكانك أن تطأ قدمه عدة مرات دون عواقب تذكر، ثم تستيقظ ذات صباح مشرق لتجد القوات الروسية منتشرة في سوريا أو في شبه جزيرة القرم، التي أعيدت إلى روسيا. يفضل الرئيس بوتين إبقاء العدو في ظلام دامس، وجهل تام بشأن نواياه بغرض تحقيق المفاجأة الكاملة في رد فعله، ويتضمن ذلك عدم الالتفات إلى الصغائر. بوتين شخص يتعامل بدم بارد لا توجهه العواطف أبداً.
لهذا النمط مزايا وعيوب. أحد العيوب هو أن واشنطن ترى في ضبط النفس الذي تمارسه روسيا مظهراً من مظاهر الضعف، فتتمادى في التصرف بعجرفة وصلف.
استراتيجياً، من المفيد لروسيا أن تتجنب أي صراعات، في انتظار موت الولايات المتحدة الأمريكية (سريريا). فالوضع كما يلي: روسيا تنمو وتزداد قوتها، بينما تضعف الولايات المتحدة الأمريكية وتتجه نحو تدمير الذات. وبمجرد الانتظار 5-10 سنوات مقبلة، لدى روسيا فرصة لكي تكون المستفيد الرئيسي من السقوط المدوي الوشيك لأمريكا . للقيام بذلك، بالطبع، من الضروري التحلّي بضبط النفس، وتجنب الصراع المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما كان عليه محور جهود بوتين في السنوات الأخيرة.
ومع ذلك، فعلى ما يبدو أنه قد يتعذّر التنحّي جانباً في الوقت الراهن، ذلك أننا نرى مساراً واضحاً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لإثارة صراع عسكري مع روسيا.
لست خبيراً عسكرياً، ولا أريد الحديث عن سيناريوهات محتملة لحرب بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، أود الإشارة إلى أنه ليس من قبيل الصدفة أن يعتبر الخبراء العسكريون الأمريكيون “التصعيد النووي من أجل خفض التصعيد” أحد ردود الفعل الروسية المحتملة على العدوان الأمريكي. أعتقد أن القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج، بما فيها الموجودة في دول عربية، يمكن أن تصبح أهدافاً لضربات نووية إذا ما وصلت المواجهة إلى هذا الحد.
ولكن، كما أسلفت، يبدو حتى الآن أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تحارب روسيا باستخدام أذرع/قفازات أخرى، وفقاً لما ظهر على الساحة الأوكرانية في الأسابيع الأخيرة من علامات الاستعداد للانقضاض على جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وهو ما سيجرّ روسيا حتماً إلى أتون الصراع. أعتقد أن الرد الروسي القاسي على نحو غير متناسب يمكن أن يكون مناسبا على فظاظة بايدن. ومع ذلك، فإن هذا الصراع محفوف بالمخاطر والانتقال إلى “التصعيد النووي من أجل خفض التصعيد”.
أعتقد كذلك أن ضبط النفس الروسي لا يتعارض مع الإجراءات المحتملة لروسيا لإخراج الولايات المتحدة الأمريكية من الشرق الأوسط ومنطقة الخليج. إيران، بالطبع، يمكن أن تكون المستفيد الرئيسي من مثل هذه التطورات للأحداث.
لكن تركيا، أو بالأحرى التحالف التركي القطري يمكن أن يكون أحد الضحايا، لما لاحظه الخبراء مؤخراً من رحلات نقل من قطر إلى أوكرانيا، والتي يفترض أنها تسلّم أسلحة تم شراؤها سابقاً في دول أوروبا الشرقية لـ “أصدقاء” سوريين. ومع ذلك، فلا يزال هذا افتراضاً، ولا يوجد تأكيد لأي من ذلك، سوى العلامات الموجودة على الألغام غير المنفجرة في دونباس، والتي تنتمي للعيار المعتمد لدى الناتو.
في غضون ذلك، تدعم تركيا أوكرانيا بشكل علني، وتزوّدها بطائرات من دون طيار وأسلحة أخرى تم تجربتها مؤخراً بنجاح في قرة باغ. أعتقد أن الحرب في أوكرانيا ستجبر أنقرة على الاختيار بين الحياد والتحالف الكامل مع الناتو. ومن الطبيعي أن يثير الخيار الأخير قضية حفاظ تركيا على حدودها الحالية.
لا أستبعد بالطبع أن يكون بوتين قادراً على كبح جماح نفسه الآن، تاركاً للولايات المتحدة الأمريكية الفرصة للانخراط أكثر فأكثر في تدمير الذات، لكني أعتقد أن بايدن قد جعل من سيناريو شبه جزيرة القرم القادمة وسوريا أقرب من ذي قبل على أقل تقدير.
كان بوتين قد صرح يوماً بأننا لسنا بحاجة لعالم لا توجد فيه روسيا. ولديه كل الترسانة اللازمة لتحويل أقواله أفعالاً. ومع ذلك، فإن روسيا عادة ما تتجنب النزاعات حتى الرمق الأخير، لكنها إذا ما شرعت في القتال، فلن يكون الأمر هيّناً على العدو.
باختصار، ربما لم يعد بإمكاننا القول إن العالم يدخل فترة من عدم الاستقرار، لم يعد هذا مجرد عدم استقرار، وإنما هي بالفعل حالة الهدوء قبل العاصفة. في السابق، كان من الممكن أن تكون هناك حرب عالمية، ولكن نظراً لقدرة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على تدمير بعضهما البعض، فمن المحتمل أن يتطور الصراع على أراضي دول ثالثة.
إذا كان هناك من بين العرب من لا يحب ترامب، فسوف تكون لديهم فرصة رائعة للاستمتاع بـ “رئيس الحرب” بايدن.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب