إطلالة سورية ،،، الوردة الدمشقية

عانقت التاريخ مثلما عانقه اسم دمشق أقدم مدينة مأهولة في العالم، ووصل عبق عطرها الأخاذ إلى أنحاء العالم عبر العصور المتلاحقة… لقبتها الشاعرة الاغريقية “سافو” بملكة الأزهار وذُكرت في ملحمتي “الإلياذة و الأوديسا” للشاعر الإغريقي هوميروس، وقد ذكرها الكاتب والشاعر الإنكليزي شكسبير في إحدى مسرحياته بقوله :جميلة كجمال وردة دمشق..
كما كتب عنها الشاعر الكبير نزار قباني في مقدمةٍ نثريةٍ لرائعته “القصيدة الدمشقية”…أنا وردتكم الدمشقية ياأهل الشام فمن وجدني فليضعني في أول مزهرية…


إنها الوردة الدمشقية التي اخذت اسمها من موطنها الأصلي دمشق الشام.. تغوص في بطون التاريخ و لعل أقدم ظهور لهاهو في إحدى جداريات قصر كنوسوس جزيرة كريت اليونانية أما في حضارة المشرق فإنها تظهر في الحدائق البابلية المعلقة وفي جنائن الفراعنة، انتقلت زراعتها إلى معظم بلاد العالم القديم بواسطة اليونانيين والرومان والقدماء المصريين ثم إلى أوروبا في العصور الوسطى خلال حروب الفرنجة
تركزت زراعتها في فرنسا وبلغاريا كما نقلها الحجاج المسلمون إلى المغرب العربي وتركيا وإيران وقد أخذت أهميتها و شهرتها لكثرة فوائدها العطرية والطبية والتجميلية والغذائية الكبيرة ويعد ابن سينا أول من اكتشف الفائدة العطرية والتقطرية لهذة الوردة الدمشقية منذ القرن الحادي عشر للميلاد
الوردة الدمشقية Rosa Damascena الوردة الشامية تتبع علمياً للعائلة الوردية Rosaceae إنها شجيرة قائمة كبيرة الحجم قوية النمو شديدة التحمل للظروف البيئية المختلفة، كثيرة التفرع معمرة متساقطة الأوراق أوراقها ريشية فردية الطرق مسننة تسنيناً منشارياً وهي متبادلة التوضع على الفروع وتصل اعدادها من ٣ إلى ٧ أزواج تغطي سوقها اشواك حادة وثمارها كبسولية الشكل، تحمل الوردة الشامية أزهارا عطرية وردية اللون تخرج في عناقيد مشطبة المظهر وعدد بتلاتها بين ٣٠الى ٤٠ بتلة تقريباً للزهرةالواحدة وتتفتح ازهارها في فصل الربيع وحسب المناطق المزروعة
أغلى من الذهب هذا ما وصف الصينيون به الزيت العطري المُستخرج من الوردة الشامية والذي يُستعمل لصناعة أفخر أنواع العطور في العالم وأغلاها ثمناً حيث يحتاج إنتاج كيلو غرام واحد من الزيت العطري إلى أربعة أطنان من الأزهار، كما يُستخدم زيت الورد الدمشقي أو ماء الورد في العديد من الصناعات التجميلية كالمراهم والصابون والشامبو والصناعات الدوائية كمهدىء للاعصاب ومنشط للدورة الدموية والكبد والمرارة وفي تنشيط الجسم بشكل كامل، علما أن كل كيلو غرام واحد من الأزهار يعطي ٨٠٠ غرام من ماء الورد وكل كيلو غرام من بتلات الورد يعطي كيلو غرام واحد من ماء الورد ، كما تحتوي على مركبات هامة مثل “الجيرانيول و السيترونيلوم”.
استنادا إلى خصائص مورفولوجية يجري تصنيف الوردة الدمشقية إلى عشرة اعراق لاتقتصر تمايزاتها على اللون والكتلة وطرائق تكتل البتلات بل كذلك وهو العنصر الأكثر ادهاشاً بالطبع على الفروقات الدقيقة بين أريج وأريج خاصة حين تنتعش شجيرات الورد في مناطق طبيعية منسرحة خالية من التلوث مثل قرية” المراح” في منطقة القلمون والتي ينام فيها الثلج لتصحو الوردة الشامية حيث تبعد حوالي ٦٠ كم شرق دمشق وتعد من أشهر القرى التي تزرع هذه الوردة ومن أولى القرى التي تعمل على الحفاظ عليها كونها كنزا حقيقيا ومنجما طبيعيا استحق شهرة عالمية، فإذا غادر المرء كتاباً مفصلا متخصصا بالوردة الدمشقية فإن الفن التشكيلي يمكن أن يزوده بمرجعية زاخرة وثرّة بصرية هذه المرة وليست نصية فقط وهذا مانراه في فن الفنان البلجيكي بيير جوزيف رودتيه والذي كان الرسام الرسمي في بلاط ماري انطوانيت الذي أرَّخ لعشرات النباتات والزهور ثم الوردة الدمشقية على وجه الخصوص حيث رسم رودتيه أكثر من ٢٥٠ منها، وقارىء تعليقات ابن سينا حول الفوائد العلاجيه الكبيرة التي تختزنها الوردة الدمشقية سوف يدرك دون كبير عناء أن الطبيب والفيلسوف العربي كان يتحدث عن وردة أخرى بالتأكيد ليس بمعنى الاختلاف في التسمية والأصل بل في التكوين والرائحة والطعم..
الوردة الشامية التي تغازل حقول وحدائق وبوابات حارات ومنازل دمشق في ربيع نضجها ومواسم قطافها وردة عشق بكل الفصول وإجماع عريق على أنها وردة للحب في المقام الأول فهي لاتبخل على أحد بجمالها وعطرها الفواح كيف لا وهي سفيرة الأرواح بعيون المحبين حين تهدى قلوبهم ضمة ورد من أزهارها المفتحة، وردة مرتبطة بشكل وثيق بكل ماله علاقة بالتراث السوري لما تتميز به من خصائص جعلتها تُزرع في كل بيت من بيوت دمشق القديمة وقد تم إدراج عنصر الوردة الدمشقية ومايرتبط بها من ممارسات وصناعات حرفية في قرية المراح في القائمة التمثيلية للتراث غير المادي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة /اليونسكو /في عام ٢٠١٩ لتبقى بجمالها وعطرها حكاية سورية تمتد عبر مئات السنين تستطيب بعطرها ومنتجاتها بلدان العالم قريبها وبعيدها وتكون سفيرة دمشق إلى العالم.

اعداد: مجد حيدر