لعل الأديب الروسي الغربي الهوى إيفان تورغينيف، لم يكن يتصور أن العالم كله سيحتفي يوما ما بذكرى ميلاد كاتب كان قد سماه هو “شخصا مريضا”.
فقد أعلنت منظمة اليونسكو أن سنة 2021 ستكون عام فيودور دوستويفسكي بمناسبة حلول المئوية الثانية لميلاد الكاتب الكبير، وأن الاحتفال بها سيشمل مختلف بلدان العالم.
كذلك فإن الاهتمام بنتاجات هذا العبقري الروسي لا يخبو، وها هو العالم يعود إليه من جديد للنهل من معين أدبه في ضوء رمادية ما يكتب الآن في روسيا ما بعد السوفياتية من روايات وقصص وتهافتها.
في حين أن المثقفين في أرجاء العالم كافة كانوا يتوقعون بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء مرحلة الرقابة البيروقراطية على أنفاس الأدباء أن تزهر حديقة الأدب الروسي بنتاجات خلاقة تعالج مشكلات الإنسان في أرجاء العالم كافة، كما كانت نتاجات غوغول، دوستويفسكي، تولستوي وتشيخوف وغيرهم من أعلام الأدب الروسي.
لكن ما رأيناه هو عودة بعض الأدباء السوفييت من منافيهم الغربية، ومحاولتهم لعب دور الأنبياء في زمن لم يبق فيه مكان لأي نبي. وكذلك ظهور كتاب روس جدد، يقارعون طواحين الهواء ويقيمون الصلوات بلغة صحافية سوقية للجنس والجريمة في وطنهم، الذي سرعان ما سئم من ترهاتهم، ولم يكن في ذلك ضير عليهم، فهم يكتبون لبعض القراء الغربيين، الذين يريدون أن يروا في روسيا موئلا للغرابة والتهتك والسكر والفجور. ولذا فإن أعمال الكاتب الروسي المعاصر فيكتور بيليفين مثلا تصدر أحيانا في أوروبا قبل أن تظهر في روسيا.
والمهتمون بالأدب الروسي يذكرون الصحافية الفنلندية كريستينا روتكيرش، التي أجرت لقاءات قبل عشر سنين ونيف مع 11 كاتبا روسيا معاصرا، وجمعت نصوص هذه اللقاءات في كتاب تحت عنوان “مئة صنف من السجق وفكرة واحدة”، ساخرة بذلك من وفرة السلع الغذائية وشح الأدب الحقيقي في روسيا ما بعد السوفياتية.
غير أن الحنين إلى الأدب الروسي الحقيقي لا يذوي، ومع أن كثيرين في مختلف أنحاء العالم يعترفون بصعوبة قراءة أعمال فيودور دوستويفسكي، فإنهم يشددون أيضا على أهمية ذلك.
وقد جعل الناقدون الأوروبيون منذ أمد بعيد رواية “الشياطين” الاجتماعية-السياسية في صف واحد مع رواية “دون كيخوته” ومسرحيات شكسبير.
كما تخطت رواية “الجريمة والعقاب” الاجتماعية-النفسية حدود روسيا ليصبح دوستويفسكي علامة فارقة في تاريخ الأدب العالمي.
وكان الكاتب الفرنسي أندريه جيد أحد المتأثرين به، كما أن الأديب النمساوي شتيفان تسفايغ (وليس ستيفان زفايغ) أفاض في الكتابة عنه.
أما رواية “رسائل من تحت الأرض” الوجودية، فقد أثرت في فيلسوف الوجودية الفرنسي جان بول سارتر.
وقد نالت رواية “الإخوة كارامازوف” الفلسفية الأخيرة إعجاب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وألبرت أينشتاين، وفريدريخ نيتشه، والفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين، والكاتب التشيكي فرانتس كافكا وغيرهم، وكانت مرجعا نفسيا لزيغموند فرويد.
بيد أن أعمال الكاتب كانت قد أثارت في حينه جدلا واسعا بين مفكري عصره الروس، ولا سيما بعد تحوله من الولع بالاشتراكية واللبرالية إلى المبادئ الكنسية.
ذلك، في حين أن الجيل الجديد من المفكرين الروس كان واقعا تحت تأثير الفلاسفة الأوروبيين القوي، وانتشرت بينهم إيديولوجيا “العدمية النهليستية”، التي ترفض جميع المبادئ الدينية والأخلاقية، وتؤكد أن الحياة لا معنى لها.
وانتقد دوستويفسكي في “يوميات كاتب” هؤلاء “المستغربين الروس”، وهيامهم بالحضارة الأوروبية.
وقد جاء في رواية “الشياطين” أن “الليبرالي الروسي عندنا هو قبل كل شيء خادم، لا همَّ لديه سوى النظر، كيف ينظف حذاء أحد ما”.
وفي المقابل، أثار دوستويفسكي حنق “اللبراليين” غربيي الهوى من الأدباء، حيث قال عنه إيفان تورغينيف بعد لقائهما في مدينة بادن-بادن الألمانية: “من غير المعقول أن أتحدث عن قناعاتي الحميمة عن روسيا والشعب الروسي أمام السيد دوستويفسكي لسبب بسيط – هو أني أعدُّه شخصاً مريضا”.
وهو يثير حنقهم الآن أيضا، فقد قال عنه أبو الأوليغارشيين الروس أناطولي تشوبايس في مقابلة شهيرة مع “الفايننشال تايمز”، سنة 2004:
“أنا قرأت دوستويفسكي في الأشهر الثلاثة الأخيرة. وإنني أشعر بكراهية طبيعية لهذا الإنسان. هو، من دون شك، عبقري، لكن تصوراته عن الروس كشعب مختار، مقدس، وتقديسه للمعاناة وخياره الكاذب ذاك، الذي يدعو إليه، كل ذلك يثير لدي رغبة في أن أقطِّعه إربا…” (разорвать его на куски).
لكن دوستويفسكي لم يكن سلافيا متعصبا للتراث الروسي الأرثوذكسي أو كارها للغرب، كما يروج لذلك غربيو الهوى من الروس، فهو رفض تقديس الغرب، وفي الوقت نفسه رفض أيضا عبادة الماضي.
على أن مقاربة رواية “الشياطين” لما جرى في روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، أدت إلى الحذر، الذي قوبلت به من البلشفيين.
ففلاديمير لينين لم يحب دوستويفسكي “البالغ الرداءة” (архискверный)، وأعماله، وبخاصة رواية “الشياطين”، التي قال عنها إن “من الواضح أنها رجعية مقززة (…)”. وأضاف: “ليس لدي أي رغبة على الإطلاق في هدر الوقت عليها. لقد تصفحت هذا الكتاب ورميته جانبًا. لست بحاجة إلى أدبيات كهذه، فما الذي تستطيع أن تعطيني إياه؟ لا وقت فراغ لدي من أجل هذه القمامة”.
ولكن لينين أوعز بإقامة تمثال له في موسكو وفق “الخطة اللينينية للترويج لإقامة النصب التذكارية” في سنة 1918.
أما موقف الزعيم السوفييتي يوسف (وليس جوزيف) ستالين من الأديب الروسي، فلم يختلف كثيرا.
فقد ذكر السياسي الشيوعي اليوغوسلافي الراحل ميلوفان ديلاس أنه سأل ستالين خلال إحدى زياراته إلى موسكو، عن دوستويفسكي، الذي كان من أشد المعجبين به. وقد أذهله جواب القارئ النهم ستالين، الذي قال عن الروائي الروسي إنه “كاتب عظيم ورجعي عظيم. ونحن لا نروج له، لأنه يؤثر في الشباب بصورة سيئة… لكنه كاتب عظيم”.
ولذلك لم تظهر الطبعات الشعبية لكتب دوستويفسكي إلا بعد وفاة الجنراليسموس السوفييتي في سنة 1953.
ثم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1991 وأفول الفكرة الشيوعية، واعتلاء فلاديمير بوتين سدة الحكم في عام 2000، أصبحت الحاجة ملحة إلى عقيدة يلتف حولها المواطنون الروس.
ومن هنا كان اهتمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأعمال دوستويفسكي، التي تدعو برأيه إلى انتهاج طريق أوراسي حضاري لا إلحاد فيه ولا انفلات ولا تعصب.
وقد شدد بوتين على ضرورة الاحتفال بمئوية الكاتب الكبير الثانية على مستوى حكومي لائق.
وهكذا، ستتاح الفرصة من جديد للعودة إلى النهل مجددا من معين أدب فيودور دوستويفسكي في روسيا وفي مختلف أنحاء هذا العالم الغريب.
حبيب فوعاني
المصدر: RT
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب