صوت من دوحة الشعر محمد كامل صالح والقصيدة الجامعة بين الجاهلية والحاضر

عندما فتحتُ عيني

على فجر حياتي

وعلى النور.. خيوط

من بقابا الظلماتِ

وعلى الأفق خيالاتُ

بغايا………. وبغاةِ”

ما تقدم؛ مقطعٌ من قصيدة (يقظة) للشاعر محمد كامل صالح (1926 – 1993م)؛ الذي يعتبره النقاد واحداً من الشعراء الذين ملؤوا الساحة الأدبية والشعرية ذات حين من عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين.. هذا الشاعر الذي قالوا عن قصيدته؛ إنها تجمعُ بمفرداتها بين الجاهلية والحاضر..

وفي كتاب (الشاعر محمد كامل صالح) االصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب؛ والذي أعدّه نزيه خوري وإسماعيل مروة، فيما اختارت نصوصه خلود أحمد رسول، يذكر المعدون؛ إنّ محمد كامل صالح ولد في قرية القلعة التابعة لمنطقة الدريكيش، ويتحدر من أسرة أدبية ذات وزن في العلم، وضاربة جذورها في الشعر، فوالده الشيخ كامل صالح ديب أحمد معروف، وأمه الشاعرة العالمة المعروفة ب”فتاة غسان” الشاعرة فاطمة سليمان الأحمد (1908 – 1985م) التي رُبيّت في بيت الشيخ سليمان المتنور والمصلح الاجتماعي، كما يُعتبر جده لأمه علاّمة الجبل في عصره أدباً ولغة وفقهاً وفلسفة، وهو أحد مؤسسي المجمع العلمي بدمشق، وكان يُلقب بالقاموس الحي لغزارة حفظه وقوة استدعائه لمعارف عصره، وله المكانة الروحية بين عوائل جبال الساحل السوري.. وخاله (بدوي الجبل) الشاعر الذائع الصيت والشهرة؛ محمد سليمان الأحمد (1903 – 1981م) سيّد شعراء العربية والحجة الباقية في يد المدرسة الكلاسيكية، وفي الرواية إن الشاعرة فتاة غسان أنجبت ثمانية أولاد: ست بنات وصبيان جميعهم حاذوا علوماً واسعة، ومنهم شاعرنا (محمد) الذي يبدو إنه كان متأثراً مما احتوى كنف جده لأمه من علم ومعرفة بعد هجرة والده لأمريكا لمدة سبع سنين..

وفي شبابه انتسب الشاعر إلى الكلية الحربية، ليتخرج منها برتبة ملازم في سلاح الفرسان، ثم التحق بوحدات الجيش السوري تحت راية جيش الإنقاذ سنة 1948م، وبعد تسرحه من الجيش انتسب إلى جامعة دمشق لينال في عامين شهادة في اللغة والتاريخ، ثم ولج عالم الصحافة، فنشر قصصه وأشعاره ومقالاته في الصحف والمجلات السورية، وبعد ذلك عاد إلى المؤسسة العسكرية آمراً لعدد من الوحدات العسكرية عدة حتى سنة 1959م برتبة عقيد. وكانت الحكومة السورية كرمت الشاعر محمد كامل صالح، ومنحته وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وللشاعر صالح ثلاثة دواوين مطبوعة هي: سقط جدار النّوم – 1987م، صلوات في محراب عشتروت – 1989م، و أغنى من الشموس – 1990م.. حيث يقول عن شعره نجيب جمال الدين:” ويلوح لي وكأنّ الشعر كله بين يديه وحده..”، أما الدكتورة نجاح العطّار فتقول إنّ:” قصائده قولٌ يتأرّثُ لظى هو دمعٌ ودمٌ وزيتٌ يشتعل فيضيء، محولاً مراثيه إلى بكاءٍ متمرّدٍ..).

أما عن المؤثرات التراثية في شعره؛ فكان كتاب العربية الأول – القرآن الكريم – فكثيراً ما تضمنت قصائده استعارات من التعبير القرآني، كما استثمر ما فيه من مجاز في الدلالة، وربما اقتبس الشاعر التعبير القرآني دون أن يُجري فيه أي تصرف، مثل ذلك في قوله: “وسقط جدارُ النوم”:

“موتوا بغيظكم فالشامُ

باقيةٌ وليس يُخفيك

شمس الضحى فندُ”

فقوله “موتوا بغيظكم” منسولٌ من قوله تعالى: (..وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بعيظكم إن الله عليمٌ بذات الصدور”.. ومن المؤثرات أيضاً؛ الشعر العربي لاسيما القديم منه، فمحمد كامل صالح؛ كان محاطٌ بأساطين الشعر نسباً ورواية، ولم يكن بدٌّ من ظهور آثار هذه الإحاطة على وجه القصائد، لاسيما تراث الشعراء طرفة بن العبد، وعمرو بن أبي ربيعة، والمُتنبي، وكذلك أبو تمام وأبو العلاء المعري، في الكثير مما كتبه من شعر، لنسمعه يُقارب ما قاله المعري في هذا البيت من الشعر مثلاً:

رُبَّ عيشٍ موتٌ

وموتٌ هو العيشُ خلودا

وهذا المعنى مما تصرفت فيه الشعراء، وجلاه شاعرُ العربية أبو الطيّب المُتنبي، وذهب به مذاهب بديعة:

ذُلّ من يغبطُ الذليلَ بعيشٍ

رُبّ عيشٍ أخفُّ منه الحمامُ

وقال أيضاً:

عشْ عزيزاً أو مُت وأنتَ كريمٌ

بين طعن القنا وخفق البنودِ

وهذا المعنى كثيراً ما نقله صالح من حقل الفخر إلى حقل المديح، ومن المؤثرات في شعره أيضاً الأمثال والتراكيب الفصاح، حيث يُمكن للناظر في ديوانه (صلوات في محراب عشتروت) وجل نصوصه غزل؛ أثراً من الرموز العربية التي ازدحمت على الشاعر على نحو: سيرس، وتموز، وعشتار، وباخوس، وفينوس، وفرجيل، وغيرها الكثير، وهو ما أعطى هوية مكانية للقصيدة، لاسيما عندما يستمد هذه الرموز الموغلة في قدامتها من سورية العتيقة، كما أنه أعنى كل ذلك من ملاحم عربية تعود لما قبل الإسلام، وكذلك استخدمَ في أشعاره أمثالاً عربية..

“وجنونٌ خطر الشهوة

وحشيُّ المعاني

يتلوى في تلافيف السما

كالأفعوانِ”

فقوله “وحشيُّ المعاني” من التعابير النقدية التي جرى عليها أبو القاسم الحسن بن بشر االآمدي صاحب (الموازنة بين الطائيين)..

بعد كل هذه المؤثرات يرى معدو الكتاب؛ إنّ شعر محمد كامل صالح تفاوتَ بين شعرٍ ناهدٍ إلى طبقة الفحول كقصيدته (آفاق) لما لها من عمق فكري علائي، وأنغام وألوان وصور آسرات، وبين ما هو دون ذلك، ولاسيما قصائده التي جاد فيها في حُميّا الشباب والصبا، وهذا بتقديري أنقذ قصيدته من “الأحفوريات” التراثية، التي لم تفد “الجذالة” فيها إلا النفخ في جثة محنطة اسمها اللغة العربية ما قبل الإسلام، حيث المفردات قُيلت في زمان ومكان محددين، ومن ثم من العبث استخدامها في زمان ومكان آخرين، وعصر جديد لا يمت لتلك العصور الصحرواية بغير اللغة وحسب. ومن الغريب أن يجد معدو الكتاب إن في ذلك ضعفاً في القصيدة، بينما العكس هو الصحيح.. رغم أن الشاعر لم يبتعد في قوله الشعري عن الديباجة العربية التقليدية، فكان دائم الاستدعاء للتراث العربي في شعره، فبدا موصول الرحم بطبقة أبي تمام والمتنبي في غير قليلٍ من أشعاره..

الشعر عند محمد كامل صالح؛ على ما يروي دارسوه: رفضٌ للأشياء المكتوبة، وشطحٌ إلى الأماكن النائية، وهو ما يشي به المقطع الآتي من قصيدة (المواسم منذورة للزمان)، فالشعرُ:

“لمحٌ.. ويرحلُ بالٌ.. في

متاهته: مسافراً..

عشق التهيام.. والسفرا

لمحٌ.. ويكشفُ آباداً

مُخبأةً.. يطفو بها “البعدُ”

واللانهاياتُ.. فيه.. خُطوةٌ

قرُبت.. والمستحيلُ

يُلبي كفّ من أمرا”..

وهذا المفهوم عند الشاعر يتوافق مع ما جاءت به الشعرية العربية التي قدمت تصوراً للإبداع الشعري بوصفه إلهاماً مستمداً من قوى خارجية قادرة..

يُصنف النقاد شعر محمد كامل صالح ضمن (شعر الوجود)، وما يُميزه؛ هو انطلاق الشاعر من محيطه، وبيئته، فهما المؤثر الفعّال والأساسي في تشكل الوعي.. ومن هنا حضرت الكثير من هذه الأركان في شعره: العمال والفلاحين، والقضايا القومية الوجودية..

“دمشقُ! أشكو.. إليكِ العُرْبَ

ضيّعهمْ.. في كلِّ صحراءٍ تيه..

قادةٌ: عُبُدُ

ذلوا.. لكلِّ بُغاةِ الأرضِ

وأئتمروا بأمرهمْ..

وطريقُ المجدِ.. قد وصدوا”

موقع صحيفة تشرين الالكتروني