مهرجانات “التّطبيع” العلنيَّة تتخفّى بـ”النّسب المئوية”

مهرجانات
مهرجانات "التّطبيع" العلنيَّة تتخفّى بـ"النّسب المئوية"

إن كانت السّفينة قد ملأتها الثقوب، وفاضت المياه إلى سطحها، فلن تجدي كلّ محاولات التّظاهر بأنَّ الحدث عابر، وأنَّ المياه ستعود إلى مجاريها.

في الواقع الفلسطينيّ، يظهر أنَّ “سفينة أوسلو” التي صوَّرت لنا خلال العقود الماضية أنها أفضل ما يمكن، تكسَّرت فيها “الصواري”، وأكلها موج البحر، ولم يبقِ إلا على هيكل محطَّم لن يصل إلى الشاطئ، ما دام الرهان على اتجاه “الريح”.

شكَّل بنيامين نتنياهو الحكومة، وتضاءل “تفاؤل” بعض من راهن على “التسوية”، بعد أن انضم بني غانتس، رئيس تكتل “أزرق – أبيض”، إلى حكومة الشراكة التي ستعلن مطلع شهر تموز/يوليو المقبل ضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وغور الأردن إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948. والحديث يدور حول 30% من الضفة الغربية، إضافة إلى “غور الأردن” بين بحيرة طبريا والبحر الميت.

لا نجلد الذّات حين نقرّ أنّ القراءات التي لم تستند إلى بنية معرفية وجذرية لكيان الاحتلال، حملت النتائج الكارثية التي تكاثرت، وأعادت إنتاج سياسات عقيمة لم تصل إلى الحدود الدنيا من المشروع الوطني الفلسطيني، الَّذي ظلَّ أسير الكتب النظرية والاجتهادات التي أوصلت الحالة الفلسطينية إلى رمال متحركة.

يبدو أنَّ سياسة “الضَّجيج” المفتعلة والمتفق عليها بين أطراف “صفقة القرن” حول ما يطرح من نسب مئوية لضمّ الضّفة الغربية المحتلّة، والّتي ستشمل أكثر من 150 مستوطنة في المنطقة “ج”، وفق تقسيمات اتفاق “أوسلو”، إضافةً إلى غور الأردن، المنطقة الأكثر خصوبة في مواردها المائية والزراعية، تقزّم الكارثة، وتحاول ترويجها من زاوية واحدة، وكأن مشروع الضم “معضلته” في النسب وعدد المستوطنات التي سيشملها القرار الفعلي أو في تبادل الأراضي.

أما ما شهدته الضفة الغربية والقدس من تهويد وتهجير منذ 53 عاماً، فهو لا يعني بعض السياسات الرسمية العربية التي أصبحت تجاهر علانية بالتطبيع مع كيان الاحتلال، وترسل طائرتها التجارية “مزينة” بعلمها إلى مطاري تل أبيب واللد، كما فعلت دولة الإمارات مؤخراً.

تكمن خطورة ما يجري في أنَّ الطرح السّياسيّ لبعض شركاء “صفقة القرن” حول مستقبل العلاقات مع كيان الاحتلال، يركّز على أن الخطوات المنفردة “ضارة” – وكأن الحديث يدور حول بستان كرز – ويجب أن تأخذ “المصالح المشتركة” بعين الاعتبار، وعدم إحراج النظام الرسمي العربي بخطوة “الضم الأحادية”، التي من المفترض أن تكون “مدروسة”، في ظل العلاقات المتنامية والأهداف المشتركة. وهذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، عن “صلابة” الشراكة مع كيان الاحتلال، وأهمية العلاقات التي أصبحت في مستوى كبير من التعاون وعلى صعد مختلفة.

في تدقيق الأداء السياسيّ والتّنظير للتطبيع مع كيان الاحتلال لبعض النظام الرسمي العربي، يمكننا القول إن مقال السّفير العتيبة في صحيفة “يديعوت أحرونوت” عبَّر عن الترجمة الفعلية والقديمة للتنسيق مع كيان الاحتلال والمشروع المستقبليّ المنوط بالتّطبيع الشامل.

إذاً، القضيّة ليست بالنّسب المئويّة، ولو كان الأمر سيذهب إلى ضمّ الضفة الغربية كاملة، وبالتالي إنهاء ملف الصّراع العربيّ – الصّهيونيّ بـ”الضّربة القاضية”، وإنّما “العتب” الخجول حيال الطّرح “المتسرع” الَّذي يجب أن ينسّق مع أطراف “صفقة القرن”، وفي التّوقيت المناسب.

ما كتبه السّفير العتيبة في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يعبّر عن السّياسة الصّريحة لبعض الدول الخليجيّة التي تموّل “صفقة القرن”، وما وراء التعاون في مواجهة “الإرهاب”، كي تفتح الأبواب “الصّغيرة” الموصدة أمام “إسرائيل”، وتدخل من البوابة الأوسع إلى المنطقة العربيّة والإسلاميّة.

تلقَّفت بعض مراكز الدراسات الإسرائيلية ما كتبه العتيبة، واعتبرته خطوة جريئة واستراتيجية تضاف إلى سياسة الإمارات للتطبيع وشرعنة “إسرائيل”، ودعت إلى أن تأخذ أفكار السفير على محمل الجدّ والنقاش التفاعلي، وخصوصاً أنَّ “إسرائيل” تنظر إلى دولة الإمارات على أنَّها “بلدوزر” التطبيع في المنطقة العربية والإسلامية.

من المهمّ هنا أن تُقرأ مقالة العتيبة وفق التوافقات السياسية الأميركية – الإماراتية. ويأتي دفع السفير إلى نشر محاضرته في صحيفة “يديعوت أحرونوت” كرسالة متعدّدة الرؤوس، وخصوصاً بعد النصائح الأميركية بأن يكون “الضمّ تدريجياً”، وبقرار من الحكومة، وليس بإجماع الكنيست.

إنَّ النّصائح الأميركيَّة لكيان الاحتلال بالضمّ التدريجيّ، ليست تنصلاً من “صفقة القرن”، كما تذهب بعض مراكز الدّراسات الأوروبيّة، وإنما درءاً لمواجهات سياسيَّة “محتملة” مع بعض الدول الأوروبيّة، التي تعتبر قرار الضمّ تدميراً لـ”عملية السّلام” وحلّ “الدولتين”.

ويمكن أن تُقرأ الإشارات الأميركية للتمهّل في “الضم” في سياق ما يواجهه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تخبّط في إدارة الملفات الداخلية، وآخرها المواجهات التي عمَّت معظم الولايات الأميركية بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية.

لم تتراجع واشنطن عن وعودها بإنهاء ملف الصراع العربي – الصهيوني. وما قامت به من خطوات فعليَّة على الأرض يدحض كل “التوقعات” السياسية في أنها تراجعت عن وعودها في دعم تطبيق “صفقة القرن”، وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في 7 حزيران/يونيو، عندما قال لوكالة “C.N.N”: “واشنطن مع الخيارات الإسرائيلية كاملة، ولن نقف عائقاً أمام بسط سيادتها في الضفة الغربية والقدس للحفاظ على أمنها”.

في الجهة المقابلة، يتعاظم الدور الموكل لشركاء “صفقة القرن”، وخصوصاً بعد مظاهر تجلَّت في حركة بدت شبه علنية للملكة السعودية، من خلال ما تسرَّب من تصريحات غير “رسمية” حول الدور المستقبلي للملكة في رعاية المقدسات وسحب البساط من المملكة الهاشمية، التي يشعر ملكها بأنَّه في أضعف مراحل حكمه، وبالتالي، ما يمكن أن يشكّله ضمّ الأغوار من تهديد اقتصاديّ وأمنيّ. كلُّ ذلك يترافق مع تجدّد طروحات “الوطن البديل” الذي يسوّق وفق مقايضات اقتصادية يمكن أن تنتشل الأردن من الوضع الاقتصاديّ الخانق الّذي يحاصرها.

من المؤكَّد أنَّ حكومة نتنياهو ترتّب أوراقها وفق مشروع ضمّ الضفة الغربية كاملة، وكذلك غور الأردن، وتهويد القدس، وترتيب ملفّات تبادل الأراضي، ما يفرغ الجليل من أغلبيته الفلسطينيّة، وهي تمارس سياسة الحرائق، غير ملتفتة إلى القرارات والضّغوط الدوليّة، وتزيد من دوائر حصارها لغزّة وأهلها، وتحاول إطباق الحصار على المقاومة وملاحقتها في غزة والضفّة والقدس.

ورغم هذا المشهد السوداوي، لن يمنح أيّ فلسطيني وعربي مقاوم كيان الاحتلال صكَّ الاعتراف، ولن ينجح مثقوبو الذاكرة في أن يساوموا على مفاتيح القدس وبيت لحم وكل مدينة وقرية في كل فلسطين، ففي أنفاس حجارتها تاريخ مقاومة وانتصار.

د.بسام رجا – الميادين