ما إن صدر قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتعيين سفير موسكو لدى دمشق، ألكسندر يفيموف، مبعوثا رئاسيا خاصا لتطوير العلاقات الروسية السورية، حتى تلاطمت الاجتهادات من كل حدب وصوب.
لن أخوض في التفسيرات المختلفة لكثير من الشخصيات السياسية والإعلامية السورية وغيرها، ممن حاولوا تفسير هذه الخطوة من جانب الرئيس بوتين. لكن ما يدفعني لكتابة هذه المقالة، هو إعادة تذكير الجميع مرة أخرى بأن شعبنا السوري، الذي يعاني وضعا مأساويا منذ 9 سنوات، بحاجة ماسة إلى اهتمام أكثر من أي وقت مضى، والتركيز بشكل أساسي على المساهمة في تحسين وضعه، والتصدي بكل حسم لمن يريد إعاقة ذلك، أيا كان المسمى الذي تندرج تحته هذه المحاولات.
مرة أخرى، لقد انتهت الحرب في سوريا، وهناك نظام لوقف إطلاق النار على كل الأراضي السورية، وهناك 4 مناطق لخفض التصعيد تحت مراقبة وإشراف مجموعة أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، ومهما اختلفنا في التفسيرات حول دور ونطاق ومدى أهمية المراقبة وتسيير دوريات الشرطة المشتركة، وحقيقة التقيّد بوقف إطلاق النار، إلا أن هذا هو الواقع المستدام والمستقر على الأرض لأكثر من سنة الآن، ولا يمكن لأي جهة، مهما كانت أجندتها أو تحيّزها، إنكار هذا الواقع، حتى ولو تخللته بعض الخروقات في الشمال الغربي لسوريا، وبعض الأنشطة الإرهابية لعدد من الخلايا النائمة، والتي لا زالت عملية القضاء عليها مستمرة.
أما من يقول إن كل ذلك لا قيمة له، بما أن السيادة السورية منتهكة، حيث يعيّن الرئيس الروسي “ممثلا عن الانتداب الروسي على سوريا”، والنظام باق في دمشق، وجزء من الشمال الشرقي أو الغربي من شمال سوريا محتل من قبل أمريكا وتركيا، فلهؤلاء أقول إن ما يجب عمله بالدرجة الأولى الآن، هو المساهمة الفورية في وقف التدهور الاقتصادي بسوريا، والبدء فورا في ترميم وإعادة إنشاء البنى التحتية التي دمرتها الحرب.
وهنا يقولون إن ذلك يعدّ دعما ومساندة للنظام “المستبد” و”الدموي” و”الظالم” في دمشق، لكني أتساءل في هذه الحالة، وهل هناك نظام آخر في دمشق، يمكن دعمه مقابل النظام الحالي؟ وهل هناك دولة أخرى وشعب آخر غير سوريا الحالية بوضعها الحالي الذي نعرف جميعا تفاصيله المأساوية؟ بل أسأل هؤلاء: ألن ينعكس إنقاذ الاقتصاد السوري، وإعادة ترميم وإنشاء البنى التحتية على حياة الشعب السوري عامة؟ وهل لا زال هناك من تساوره الشكوك بأن المرحلة الانتقالية لتغيير النظام، لابد وأن تمر عبر النظام القديم نفسه، باختيار نظام جديد، من خلال عملية انتخابات نزيهة شفافة، يشارك فيها كل الشعب السوري، على النحو الذي ينص عليه قرار مجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة رقم 2254؟
لقد تشكلت اللجنة الدستورية، وعقد الحوار السوري السوري أول لقاءاته، وشارك فيها ممثلون عن الحكومة والمعارضة، وستستأنف هذه اللقاءات قريبا جدا، على الرغم من كل محاولات تخريبها، سواء من قبل النظام، أو بسبب خلافات المعارضة، وازدياد الصعوبات المتوقعة في سوريا، عقب دخول “قانون قيصر” أي القوانين العقابية الأمريكية لحماية المدنيين السوريين حيز التنفيذ الشهر المقبل.
للأسف إن من يكتب من الأخوة السوريين، يتناسون على ما يبدو أن لديهم وطنا يجب أن يعودوا إليه، ومعهم ملايين اللاجئين والمهجرين، للمشاركة في إعادة بنائه، وازدهاره، ولا يرون في أي خطوة من الخطوات التي يحاول فيها الأصدقاء مساعدتهم، سوى جوانبها السلبية، بدلا من بارقة أمل إيجابية. أليس الأكثر إلحاحا اليوم التفكير فيما يتعيّن اتخاذه من إجراءات لمواجهة تداعيات تنفيذ “قانون قيصر”، الذي سيزيد من معاناة الشعب السوري؟ أم أصبح مسؤولو المعارضة والنظام بعيدين عن شعبهم بالدرجة التي يعجزون فيها عن الإحساس بمعاناته، وإدراك ما هو مقبل عليه من صعوبات؟
أما قرار التعيين الصادر عن الرئيس الروسي، فأذكّر الجميع بما ورد في افتتاح مؤتمر موسكو الثامن للأمن الدولي (23-25 أبريل 2019)، حينما تلا سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف، كلمة الرئيس الروسي للمؤتمر، وجاء فيها أن “هزيمة الجماعات الإرهابية تفتح آفاقا للاهتمام بعدد من القضايا الموضوعية، بما في ذلك الإسهام في استعادة الحياة الطبيعية في سوريا والعراق، وآفاق تطوير الوضع في أفريقيا والشرق الأوسط”، بينما أعرب بوتين عن قناعته بأن المؤتمر “يسهم إسهاما كبيرا في توطيد الجهود في مكافحة الإرهاب والتطرف، وتسوية الصراعات الإقليمية، وضمان الأمن العالمي، والمضي قدما في تنفيذ إجراءات بعثات حفظ السلام المطلوبة”.
كذلك، وفي نفس المؤتمر، تحدث رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الروسي، المارشال فاليري غيراسيموف، حول تعقيد عملية القضاء على التنظيمات الإرهابية في العالم، والتي يصل تعدادها إلى 200 تنظيم، وتحتاج إلى توحيد الجهود الدولية كافة للقضاء عليها، والحيلولة دون استعادة توطين هذه التنظيمات في أماكن أخرى من العالم.
إن من يلجؤون لأساليب الحصار الاقتصادي والعقوبات، على غرار “قانون قيصر”، ومن يروّجون لهذه الطريقة العقيمة لحل الأزمات، إنما يساهمون بإصرار على خلق البيئة الخصبة والمستدامة لتغذية التنظيمات الإرهابية بالعناصر البشرية، وتعزيز وجود حاضنة شعبية متواطئة مع هذه التنظيمات في سوريا. وذلك هو السلاح الأهم لتنفيذ أهداف التنظيمات الإرهابية والتشكيلات العصابية، وأختص هنا سوريا، لأن تسع سنوات من الحرب خلقت جيلا كاملا، لا يعرف من الحياة سوى الحرب والسلاح، وحينما يهددهم ويهدد عائلاتهم الجوع، فليس أسهل من الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية، بل و”التحالف مع الشيطان نفسه” لسد احتياجاتهم من الغذاء وما سواه. ورأينا ونرى كيف تستعيد هذه التنظيمات عافيتها، وتعاود استئناف أنشطتها الإرهابية في ليبيا، بعد أن تقطعت بها السبل في سوريا والعراق.
ختاما، أود أن أطمئن جميع السوريين، بحسب خبرتي في السياسة الخارجية الروسية وأهدافها، أن روسيا لا يمكن أن تتخلى عن سوريا في هذه الظروف، وأنا على يقين أن مجموعة أستانا أيضا لن تتخلى عن استمرارها في المهمة التي وضعتها نصب أعينها منذ البداية، وهي التوصل إلى الأمن والاستقرار في سوريا، والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها.
لقد عيّن الرئيس الروسي في وقت سابق، ألكسندر لافرينتيف، مبعوثا خاصا لشؤون التسوية السورية، لضمان الاتصال الدائم والمباشر مع دول مجموعة أستانا وغيرها، وذلك بهدف التوصل إلى تسوية للأزمة السورية. الآن يعيّن بوتين سفيره فوق العادة، ومطلق الصلاحية، مبعوثا رئاسيا خاصا لدى سوريا، وذلك يعكس مدى اهتمام الرئيس بوتين بالشأن السوري، وحرصه على وضع ما ورد في خطابه، الذي أشرت إليه، بمؤتمر موسكو للأمن الدولي، حيز التنفيذ، سعيا منه لتنمية وتطوير العلاقات الثنائية الروسية السورية في كافة المجالات، وهي خطوة تهدف بالدرجة الأولى إلى تطوير الاتصالات في جميع القطاعات على مستوى الإدارات الميدانية، لإنقاذ الشعب السوري من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة يوما بعد يوم ، وإنقاذ سوريا من التحول إلى دولة فاشلة، الهدف الذي يسعى البعض لتحقيقه.
إن خطابات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في المؤتمرات الدولية ليست مجرد شعارات فارغة أو كلمات إنشائية تخلو من الجدية في التنفيذ، وإنما هي مقترحات، وخارطة طريق، وتعليمات، تتبعها خطوات عملية على الأرض لمساعدة سوريا.
رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب