لماذا يُطلُّ فايز السراج داعياً لاستئناف الحوار السياسي الليبي في هذا التوقيت ، ويذهب بدعوته إلى حدود استعداده “لتعديل الاتفاق السياسي السابق ، أو التوافق على مسار دستوري جديد وانتخابات عامة”؟.. بقدر ما تنطوي عليه الدعوة من حيثيات أسست لإطلاقها، فإنها تفصح عن مرامي وغايات لا تنحصر ضمن دائرة حساباته المحدودة.
التناقض والتخبط في الرؤية السياسية والوطنية إزاء ليبيا ومستقبلها نهجٌ طبع سلوك وتوجهات فايز السراج ، فبعد دعوته الشهيرة لتدخل دولي في ليبيا عشية انعقاد مؤتمر برلين مطلع العام الجاري ، يعود الآن ليدعو إلى استئناف الحوار السياسي بين جميع الأطراف الليبية.
بين فترتين زمنيتين من عمر الدعوتين لا تتجاوز مدتهما الأشهر الخمسة تبدلت الكثير من الوقائع واستجدّت معطيات وظروف على أرض الواقع الليبي لابد من مقاربتها بشكل موضوعي كي يصبح فهم دوافع السراج ممكناً .. على الأرض ؛ ورغم الانخراط التركي المفضوح في تأجيج الصراع الليبي الداخلي من خلال التدخل العسكري المباشر واحتلال جزء من الأراضي الليبية والزج بآلاف المرتزقة وتقديم كافة أنواع الدعم العسكري لميليشيات السراج وحكومة الإخوان في طرابلس، إلا أن الجيش الوطني الليبي تمكن من تحقيق الكثير من الأهداف التي سعى إليها عسكرياً وسياسياً، داخلياً وخارجياً، قابلها بحكم الواقع والضرورة هزائم متواترة للسراج وميليشياته على الصعيدين ذاتهما أي السياسي والعسكري في الداخل الليبي وعلى المستويين الإقليمي والدولي.
الجيش الوطني الليبي تمكن من الوصول إلى تخوم العاصمة طرابلس ودخل بعض أحيائها بعد دحر ميليشيات السراج ومرتزقة أردوغان وأطبق الحصار عليها من عدة جهات، وهو يحظى بتأييد مختلف قطاعات الشعب الليبي، وتمكن من إثبات حضوره على المسرحين العربي والدولي بصفته ضامناً لوحدة وسيادة الأراضي الليبية ورافضاً لجميع أشكال التدخل الخارجي ، واعتباره الوضع في ليبيا شأناً داخلياً، وبرهن على عقيدته تلك من خلال مواجهة خطط وسلاح أردوغان ومرتزقته الداعمين للسراج والذين حاولوا أكثر من مرة إحداث خروقات على جبهات القتال لتشتيت جهود الجيش الوطني الليبي وتخفيف الحصار الذي يفرضه عليهم في طرابلس، في ظل هذه المعطيات والمستجدات الميدانية الداخلية تأتي دعوة السراج لاستئناف الحوار السياسي واستعداده لقبول “تعديل الاتفاق السياسي السابق أو التوافق على مسار دستوري جديد وانتخابات عامة” الأمر الذي يشير إلى تحول وانعطافة كبيرة في تفكيره تستلزم قراءة متأنية لمجمل المؤثرات الذاتية والخارجية التي أسهمت بطريقة أو بأخرى في ذلك.
ثمة عوامل خارجية لا يمكن القفز فوقها؛ أولها أن دعوته لاستئناف الحوار تزامنت مع إطلاق الأوروبيين رسميا لعملية “إيريني” البحرية مطلع الشهر الجاري الرامية إلى تنفيذ الحظر الدولي على توريد السلاح إلى ليبيا ، وهي العملية التي أثارت حفيظة وغضب السراج وأردوغان لأنهما يدركان أنها ستفضح خرق تركيا للقرارات الدولية من جانب، وستوقف تدفق السلاح إلى ميليشيات طرابلس من جانب آخر ، مع ما يعنيه ذلك من مواقف دولية أكثر صرامة ضد منتهكي قوانين الحظر ، إضافة إلى أن تراجع إمدادات السلاح لميليشيات السراج ستقلص وتضعف خياراته الميدانية ولاحقاً السياسية، فأراد استباق نتائج وتبعات العملية الأوروبية الدولية بالجنوح نحو الدعوة إلى طاولة الحوار.
أما العامل الثاني الذي جعل السراج يدعو للحوار فهو الموقف الدولي الموحد في وجه سياسة أردوغان ومشروعه التوسعي في ليبيا ، ووعيُ الأوروبيين تحديدا لما يحمله من مخاطر على دولهم أمنيا وسياسيا واقتصاديا وإنسانيا ، إذ بدا جليا للسراج ، أمام وحدة الموقف الدولي ، أنه سيكون وحيداً في مواجهة جيران ليبيا من الأوروبيين والدول العربية التي تلتقي جميعها عند رفض نهج وأطماع العثماني الجديد ، وتسعى لتوفير الاستقرار للشعب الليبي دون تدخلات خارجية ، يضاف إلى ما سبق عامل لا يقل أهمية يتلخص بفشل أردوغان في استدراج موسكو إلى المسرح الليبي كطرف دولي مقرب منه لاستغلال علاقة الأخيرة مع اللواء خليفة حفتر وإيقاف هجومه لتحرير طرابلس بعد إخفاق السراج وميليشياته في صد تقدم الجيش الوطني الليبي ؛ فشلٌ أوحى للسراج بإطلاق دعوته للحوار السياسي حيث لاحت أمامه قدرة الجيش الوطني على قلب موازين الحرب على الأرض لصالحه … ل
ا يبدو أن دعوة السراج لاستئناف الحوار السياسي في سياق الواقع الليبي الراهن تمتلك حظوظاً تؤهلها للقبول من قبل الأطراف الوطنية الليبية ، أو صدىً ايجابياً على المستوى الخارجي لأسباب عدة منها أن السراج وميليشياته شرّعوا أبواب ليبيا للاحتلال الخارجي التركي العسكري وأفسحوا المجال لانتهاك سيادة البلاد من قبل جيش محتل ومرتزقته ، وأسهموا في تعميق الانقسام الداخلي ، وفي تأليب الرأي العام الدولي ضد ليبيا ، وتسببوا في تكبيلها بقرارات أممية لتطويق آثار وتداعيات هذه السياسات التي أثبتت الأيام أنها لا تراعي مصالح الشعب الليبي ، ولا مصالح محيطه العربي ، ولا حتى مصالح دول الجوار الليبي من الأوروبيين.
السراج وضع نفسه في أكثر الزوايا صعوبة وتعقيدا باستدعائه الاحتلال التركي لجزء من بلاده وباستمرار مراوغاته خدمة لأجندة ومشروع أردوغان ، مقدّماً ايديولوجيته الإخوانية ومصالحه الضيقة على المصالح الوطنية للشعب الليبي واستقلاله وسيادته ، وما دعوته الجديدة لاستئناف الحوار السياسي الليبي سوى مناورة لكسب الوقت والتخفيف من الضغوط الميدانية العسكرية المترافقة مع تنامي التحديات الداخلية والخارجية ضده وضد سياسته ، ومن الطبيعي أن يكون إنهاء الاحتلال التركي للأرض الليبية أولى الخطوات العملية المطلوبة من السراج لبناء الثقة إذا ما أراد المضي قدماً في سبيل إنضاج مشروع سياسي وطني ليبي دون تدخلات وأجندات خارجية.
*كاتب سوري