ما كشفه وباء كورونا هو بداية السلسلة التي ستجعل من السياسة الأميركية في حَجْر ولن تخرج منه من دون خسائر كبرى.
في كتابه “قراصنة وأباطرة” يقرأ المفكّر الأميركي ناعوم تشومسكي طبيعة نظام الهيمنة الدولي وإشعال الحروب في العالم وتسخير المقدّرات للأهداف “العليا” التي تشكّل ضرورة “قصوى” في أن تبقى أصوات الطائرات تغطّي على أيّ صوت آخر.
على الرغم من أن الكتاب نُشر في طبعته الأولى في تسعينيات القرن الماضي إلا أنه من الكتب الهامة والغنية التي سلّطت الضوء على سياسة التوحّش الأميركية وذلك وفق منهجية علمية تنأى عن الإجتزاء ونظرية المؤامرة أو “الأيديولوجيا” المسبقة التي تسعى إلى الإدانة من دون أدلّة أو تقصِّ.
ما حدَّده المفكّر ناعوم تشومسكي في كتابه الآنف الذِكر حول طبيعة نظام الهيمنة العالمي وتسخير قدراته العسكرية للنهب والإستقواء، تجاوز اليوم كل التصنيفات وأصبح في تمدّده يشكّل خطراً على السلم والأمن العالميين، حيث لا رادع يوقفه في ظل “التشاركية” التي فردت ظلالها على دول كبرى وأصبحت بالتالي جزءاً من النهب الدولي تحت مسمّيات شتّى، تم تصديرها على أنها “قِيَم” ثقافية وحضارية يمكن أن تسهم في إعادة تشكيل مفاهيم مجتمعية وثقافية.
في التدقيق بفوضى المفاهيم و”النظريات” التي سادت في تسعينيات القرن الماضي وما تلاها من طرح للكاتب الأميركي فرانسيس فوكاياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان” الصادر عام 1992، والذي يؤكّد فيه على سيادة عصر الليبراليات والسوق الحرّة ونهاية التطوّر الإجتماعي الثقافي والسياسي للإنسان، وكذلك الجدل الذي أثاره طرح الكاتب صموئيل هنتيغتون بردّه على فوكاياما في ما كتبه حول نهاية التاريخ يشكّلان مدخلاً مع ما طرح من أفكار لتحليل صورة ثلاثية الأبعاد والتي تظهر هشاشة العلاقات الدولية التي نهشها الخواء، وعكست مشهد التآكل الداخلي الذي لم ينقطع طيلة العقود الماضية. و”حتمية” التآكل الداخلي لم تتوقّف عند حدود فشل التكامُل الإقتصادي والمفاهيم الليبرالية والسوق الحرة، بل تمظهر في إنكشاف العلاقات الأخلاقية والإنسانية “السلعية” بعد أن طفت على السطح مع تفشّي كورونا في معظم دول العالم.
بل يمكن القول: إن “نظرية” التفوّق الأميركي التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية والتي دفعت واشنطن إلى عسكرة العالم ونشر قواعدها في معظم دوله تعرّي كل محاولات القفز عن الحقائق التي تحاول أميركا أن تتستّر عليها. وهذه الحقائق تبدّت في وجوه سياسية شتّى وذلك من خلال الترويع والسيطرة في نشر الرعب القادم من الشرق و”أهمية” مواجهة ذلك في بناء التكتلات الإقتصادية الليبرالية والسوق الحرة، وبالتالي الإستحواذ على أهم المراكز الحيوية التجارية في العالم. وقد غذّت واشنطن سياسة المواجهة مع الصين وروسيا وسعت إلى عزلهما وتحديد مسارات نفوذهما.
ومع أن السياسة الأميركية افتقرت إلى قوّة التنفيذ في تفعيل آليات الحصار الإقتصادي بشكلٍ مؤثر وتحديداً باتجاه الصين وروسيا بحُكم تشابُك المصالح العالمية، إلا أنها تمكّنت من نشر فوضى المفاهيم السياسية والإيديولوجية في حربها العلنية والخفية. هذه الفوضى التي نلمس نتائجها اليوم وبدأت تتكشّف في الحرب على وباء كورونا.. وظهر ذلك في أنها غير معنية بأيّ تضامن في مواجهة الوباء، بل سعت إلى رمي التّهم ضد الصين.
ويبدو جلياً اليوم أن واشنطن التي تواصل حربها الإقتصادية والعسكرية في العالم، لم تسخّر إمكاناتها الكبيرة في الداخل الأميركي الذي أصابته شظايا “النظريات” التي أطلقت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. فهي كالنمر الجريح الذي لم يعد قادراً الإنقضاض على فريسته. فالنظريات الأميركية طيلة العقود الماضية والتي سخّرت لأجل توسيع رقعة الهيمنة في العالم وكرّست الجهود من خلال كتّابها و”مفكّريها” كي تسود العالم، ارتدّت إلى الداخل الأميركي الذي بدأ يشعر أن الدولة العظيمة فشلت في أن تستوعب الحالات المرضية في مشافيها. الفشل الذي لا تريد الإدارة الأميركية أن تعترف به ولم تزل تكابر، وهو الفشل الذي أفرغ متاجر الأسلحة في بعض الولايات الأميركية والتي شعر سكانها بأنهم مجرّد أرقام في الحسابات الرئاسية.
هل يمكننا القول إننا أمام مرحلة جديدة على المستوى الداخلي الأميركي وكذلك في العلاقات الدولية؟
لا شك إننا أمام تطوّرات سيكون لها تأثير كبير على المستويين الداخلي والخارجي الأميركيين. وهذه التطوّرات لا يمكن تجاوزها بوعودٍ رئاسية في الدعم الإقتصادي للمتضرّرين من وباء كورونا، وسيكون من الصعب ترميم الهوّة التي يراها المواطن الأميركي بأنها تتّسع وكشف سترها وباء كورونا في دولة من المفترض أنها أكبر اقتصاديات العالم وتتمتع بنظام صحي مرموق. ومن جانب آخر ليس من السهولة تجاوز هذه المرحلة التي تخبّط فيها المجتمع الأميركي جرّاء السياسات الإرتجالية للإدارة الأميركية والتي أثبتت الفشل في إدارة الأزمة، ما يجعل المواطن الأميركي يشكّك في الشعارات التي تطرحها الأحزاب الأميركية في انتخابات الرئاسة.
أما على المستوى الدولي وعلاقات الولايات المتحدة مع شركائها فإننا أمام مرحلة قد تحمل أوجهاً عدّة. ومن هذه الأوجه إعادة النظر في ما تطرحه الولايات المتحدة من شراكة أمنية وحماية لأوروبا بعد أن سقطت هذه “النظرية” في أول امتحان لها وذلك على مستوى التضامن في الأمن الصحي العالمي. وسينعكس ذلك على العلاقات بين الدول الأوروبية التي فشلت في امتحان التكامل الصحي الذي لم يعكس الشعارات التي تطرحها منظومة الإتحاد الأوروبي.
إذاً تستمر القرصنة الأميركية في محاولات إخضاع العالم للهيمنة، ونشر فوضى “النظريات” التي تصدّرت مفاهيم السوق المشتركة والتكامل الإقتصادي شرط أن تتصدّر القائمة، وبالتالي هي من يحدّد القوى المتحكّمة بالعالم وكل ذلك يكون تحت سيطرتها وإدارتها.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو الوجه الأوضح لأميركا وسياستها في العالم، سياسة القرصنة التي تواصل نشر الفوضى في العالم، وتمارس الإرهاب والإستعلاء حتى مع أشدّ حلفائها وشركائها الإقتصاديين.
ما كشفه وباء كورونا هو بداية السلسلة التي ستجعل من السياسة الأميركية في حَجْر ولن تخرج منه من دون خسائر كبرى.
*د.بسام رجا – كاتب وإعلامي فلسطيني
المصدر: الميادين نت