منذ أن بدأت العمل في بلاط صاحبة الجلالة قبل ربع قرن تقريباً، حرصت على النأي بنفسي عن كل ما من شأنه إثارة الزوابع والسجال غير المجدي مع زملاء المهنة أو الهجوم على أي وسيلة إعلامية بذاتها، مع أنني كنت ولا أزال حريصاً على نقد السياسات التي تتبناها هذه الوسائل، التابعة بشكل أو بآخر لقوى سياسية أو اقتصادية أو حزبية أو للحكومات والدول.
كصحفي معني فقط بنقد السياسات كحق من حقوقي ما دمت أمتلك الأدلة، بعيداً عن الديماجوجية. وأعرف جيداً الخط الفاصل بين الصحفي والمُطبّل والصحفي المسؤول، وذلك الساعي إلى التكسّب والتسلّق على حروفه ومواقفه.
واليوم أرى نفسي مضطراً للخروج عن هذا المبدأ بعدما تابعت تحقيقاً “استقصائياً” على قناة الجزيرة القطرية في برنامج “ما خفي أعظم”، يتناول الاستثمار الأجنبي في دبي، ويدعو بصراحة المستثمرين للابتعاد عن الإمارات لأنها دولة خطرة (؟!) والادعاء بأن الاستثمارات فيها عرضة للاستيلاء عليها. هذا باختصار الهدف الرئيسي من هذا التحقيق، الذي جُندت له كل الوسائل التقنية المساعدة والمؤثرات السمعية والبصرية لصرف الانتباه عن أيِّ نقاش منطقي لما حواه من ادعاءات.
من حيث الشكل؛ كل من تابع الحلقة المُشار إليها يلاحظ بوضوح أن مقدمها “الزميل تامر المسحال” افتتحها بمقدمة تظهر موقفاً مسبقاً من الإمارات، وراح طيلة الخمسين دقيقة هي مدة التحقيق، يبحث عما يعزز موقفه مُسخراً كل الوسائل المتاحة لذلك.
فالموسيقى مُختارة بعناية وكوادر التصوير والغرفة التي تُظهره يبحث ويدقق أوراقاً ومستندات على صلة بالموضوع، ليوهم المُشاهد بأن هذا “المحقق الفذ” بذل جهداً كبيراً وأنفق ساعات طويلة في البحث والتدقيق ومناقشة “الأدلة”، فضلاً عن القول إنه تنقل بين دول عدة بحثاً عن الحقيقة. فيما المهني والمحترف في العمل التلفزيوني يعلم تماماً أن كل هذه الخلطة إنما تهدف فقط إلى إثارة المُشاهد وصرف انتباهه عن التدقيق ونقاش كل ما يقوله المسحال ويسوقه. وما ذكرته أعلاه فيض من غيض مما زُجّ بالتحقيق من مؤثرات أخرى.
وفي الشكل أيضاً، كانت صور مدينة دبي التي تضمنها التحقيق كافية وحدها لتفنيد الادعاءات والسموم المروّجة، حيث أظهرت الحجم العملاق لبنيتها التحية ومدنها وتحفها المعمارية وأسلوب الحياة المدهش فيها. أما التعليق المُصاحب لها فيناقض جملة وتفصيلاً ما تراه العين، وفي ذلك خروج صارخ عن كل القواعد المهنية.
أما من حيث المضمون، أستطيع الجزم بأن المشرف على هذا التحقيق لو كان يمتلك أدنى معايير المهنية والنزاهة والحياد، كما يدعون، لما وافق على بثه تبعاً لما فيه من مغالطات وتضليل في توجيه الاتهامات الخاوية من أيّ أدلة، وفي ذلك إهانة لأبسط معايير العمل الصحفي.
واستناداً لذلك، كان “الزميل تامر المسحال” ومَنْ يقف خلفه في إعداد وتسويق هذا التحقيق، إنما يريدون إقناع الناس بأن شهادتين أو ثلاث شهادات لأشخاص لديهم قضايا لا تزال عالقة في مؤسسات دبي الرسمية، كفيلة بالنيل من سمعة وقيمة الإمارات كبيئة استثمارية هي الأهم والأكثر جدوى بين نظيراتها في العالم، رغم الصعوبات والانتكاسات والأمراض التي مر ويمر بها الاقتصاد العالمي.
فالبيئة الاستثمارية في الإمارات عامة ودبي خاصة، قائمة على المحفزات اللامحدوة التي تقدمها الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، وهي تقوم بذلك انطلاقاً من قناعة راسخة بأنها شريك كامل في نجاح وشريك كامل في فشل أي مشروع أو نشاط اقتصادي أو استثماري فيها مهما كان حجمه، لذلك تحرص على بلوغ النجاح دون التفات للأكلاف المادية أو التسهيلات الممنوحة. وهناك مئات بل آلاف الأمثلة على ذلك.
وبمراجعة بسيطة للأرقام الموثقة في أعوام مختلفة يمكن الوقوف على حقيقة واقع القطاع العقاري بدبي، الذي حاولت “خناجر” تحقيق قناة الجزيرة طعنه بظهره في العتمة.
فخلال الشهور التسعة الأولى من عام 2018 سجل السوق العقاري في دبي 39802 تصرف عقاري، بقيمة إجمالية بلغت 162 مليار درهم، بحسب تقرير دائرة الأراضي والأملاك.
وأشارت بيانات إدارة الدراسات والبحوث العقارية إلى أن سوق دبي استقبل خلال الفترة المشمولة بالتقرير 25473 مبايعة تجاوزت قيمتها 56.6 مليار درهم.. أما الرهون العقارية فقد اقترب عددها من 11 ألف عملية بقيمة زادت على 86 مليار درهم. وكانت هناك تصرفات من فئات أخرى بلغ عددها 3486 تصرفاً بقيمة قدرها 19.3 مليار درهم.
واستقبلت دبي خلال الفترة المذكورة أعلاه 27174 استثماراً لـ21605 مستثمرين بقيمة إجمالية قاربت 50 مليار درهم. وجاءت هذه الاستثمارات من 163 جنسية، منها 16 جنسية عربية و 5 جنسيات خليجية، بينما توزعت الجنسيات الأخرى البالغة 142 جنسية على مختلف قارات العالم.
وكشف تقرير للدائرة الاقتصادية بدبي أن المستثمرين الإماراتيين تصدروا قائمة المستثمرين في السوق العقاري خلال العام الماضي 2019 باستثمارات بلغت 10 مليارات درهم، وحلّ مستثمرون من الهند في المرتبة الثانية باستثمارات بلغت 9 مليارات درهم، ثم البريطانيون باستثمارات تزيد على 4 مليارات درهم والسعوديون بـ3 مليارات درهم، ثم الباكستانيون والصينيون والأردنيون والمصريون والكنديون.
كما وثّق تقرير عن حركة الأعمال صادر عن قطاع التسجيل والترخيص التجاري في اقتصادية دبي، إجمالي عدد الرخص الجديدة التي تم إصدارها خلال شهر مايو/أيار 2019 بلغ 2599 رخصة، بنسبة زيادة بلغت 50 في المئة مقارنة بالشهر نفسه من العام 2018. وأكد التقرير أن الرخص الجديدة أسهمت في إضافة 8348 وظيفة إلى سوق العمل. وتوزعت تلك الرخص على أنشطة مهنية وتجارية وصناعية وسياحية. ويمكن للمهتمين بمعرفة المزيد الحصول عليها وهم خلف شاشات حواسيبهم.
والسؤال هنا: لماذا تعامى تحقيق قناة الجزيرة المذكور عن كل تلك الأرقام وركز فقط على ادعاءات هزيلة؟.. ولماذا لم يواجه ضيوفه بتلك الأرقام ويطلب منهم تفسيراً لها؟.. ولماذا لم يسألهم: كيف تدّعون أن دبي تبيع الوهم وجميع بياناتها ومؤشراتها في تصاعد مستمر؟
طبعاً “الزميل المسحال” لم ولن يكون معنياً بإظهار الحقائق، بل هو معني أولاً وأخيراً بتسويق ادعاءات وأضاليل وحسب.
فمن عرف دولة الإمارات، وعايش نهضتها العملاقة ووقف على حجم الفرص التي أتاحتها للطموحين والمثابرين، والتنوع والغنى وكمية الحوافز والقوانين التي هيأتها للمستثمرين، سيُصاب بالغثيان من كمِّ الأكاذيب التي ساقها تحقيق قناة الجزيرة المذكور.
لم يدّعِ أحد يوماً أن الإمارات أو دبي لا تتأثران بما يُصيب العالم من هزّات أو مصاعب اقتصادية ومالية، لأنهما ببساطة باتتا رقماً صعباً على خريطة الاستثمار العالمي، وأحد أركانه الأساسية وقِبلة ذوي الأفكار الخلاّقة والمستثمرين الباحثين عن بيئة صحيّة وآمنة، ومقصد الساعين وراء أحلامهم الكبيرة، وفي الإمارات صعدوا أعلى مراتب النجاح يحرسهم جيش جرار من الساهرين على راحتهم وأمنهم وتحفيزهم.
ثم بعد كل ذلك يأتي صحفي شاب، كي لا أقول “مراهق” مُسلّح بأيديولوجيا معادية للإمارات جهاراً نهاراً، يأتي لاغتيال كل حقائق الإمارات ودبي دفعة واحدة، ممتطياً سروج أشخاص تحوي ملفات قضاياهم كماً من الشبهات والمخالفات الموثقة، التي لو أثيرت معهم لرأى كل متابع للبرنامج بأم العين كيف يمكن للسحر أن ينقلب على الساحر.
وفي الإمارات لم يقل أحد يوماً أنها تخلو تماماً من فاسدين ومنتفعين يحاولون استغلال مواقعهم لمصالحهم الشخصية.. ولم يدعِ أحد يوماً أنها مدينة أفلاطون الفاضلة، ولكن الجميع فيها متأكد أن كل فاسد ومُفسد ستطاله يد العدالة إن آجلاً أو عاجلاً، ولا أحد فوق القانون. وفي الإمارات لا يشعر أي مسؤول بالغضاضة إن اتخذ قراراً ثم تراجع عنه عندما يتأكد بالتجربة العملية أن هذا القرار أو ذاك لم يأتِ بالفائدة المرجوة لبلده وشعبه.
واللافت في النهاية أن “الزميل تامر المسحال” كان مثاراً للشفقة والسخرية عندما دأب على تمرير بعض الكلمات والعبارات غامزاً من قناة زرع الفتنة والشقاق بين أبو ظبي ودبي (؟!)؛ فالمسكين يجهل أن مؤسس الإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بناها على قواعد الحب والتسامح والنخوة، وليس على مبادئ خيانة الصدقاء وقتل الأشقاء وانقلاب الأبناء على الآباء.
العين الاماراتية