لا شك أن العلاقة بين روسيا وتركيا التي وضع أسسها خلال السنوات القليلة الماضية الزعيمان رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين تمر حاليا بمرحلة حرجة، رغم أن الطرفين يحافظان على شعرة معاوية.
وبنظرة سريعة على علاقات البلدين منذ ظهور الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية يتبين أن التنافس والمواجهة العسكرية كانت السمة البارزة لعلاقة الطرفين.
سعي حثيث
سعت روسيا منذ أن أصبحت قوة كبيرة في ظل القياصرة قبل قرون، إلى الوصول إلى البحار وخاصة البحار الدافئة وتجاوز معضلة توقف موانئها المطلة على بحر البلطيق عن العمل لأشهر عديدة كل عام بسبب تجمد مياه البحر.
فخاضت روسيا ضد تركيا 15 حرباً على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.
ففي عام 1914 على سبيل المثال، وهي السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى، مرت ما نسبته 50 في المئة من جميع الصادرات الروسية و90 في المائة من صادراتها الزراعية عبر مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين.
فكان لا بد في البداية الوصول إلى سواحل البحر الأسود وهو ما نجحت فيه بنهاية حرب القرم الأولى بين عامي 1768 و1774 ومنذ ذلك الحين أصبح لروسيا قوة بحرية كبيرة في البحر الأسود.
وبات التحكم بمضيقي البوسفور والدردنيل، أو على الأقل ضمان حرية الملاحة للأسطول الروسي والبواخر الروسية، على رأس أولويات روسيا وأهدافها، وهو ما أكدته إتفاقية القسطنطينية التي تم التوصل إليها قبل عام من اتفاقية سايكس بيكو.
فبموجب إتفاقية القسطنطينية السرية وافقت بريطانيا وفرنسا على منح روسيا السيطرة على مضيقي الدردنيل والبوسفور وكذلك مدينة القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت، في حال انتصار الحلفاء الثلاثة في الحرب العالمية الأولى، لكن اندلاع الثورة الروسية والقضاء على حكم القياصرة عام 1917 أنهى الاتفاقية.
استطاعت الدولة العثمانية الوصول إلى أسوار فيينا عام 1529 وفشلت في احتلال المدينة فانكسرت هناك ومن بعدها بدأت مرحلة التراجع على أكثر من جبهة.
فعلى الجبهة الشمالية اندلعت مجموعة من الحروب بين روسيا والعثمانيين انتهت بخسارة السلطنة لمساحات كبيرة من الأراضي التي احتلوها سابقا ووصلت الامبراطورية الروسية إلى البحر الأسود .
كانت أول حرب بين روسيا وتركيا بين عامي 1676 و1681 على الأراضي الأوكرانية حاليا حيث فشلت روسيا في السيطرة على شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود. فأعادت روسيا المحاولة بين عامي 1687 و1689 وفشلت مرة أخرى.
لكن قيصر روسيا بطرس الأول استطاع بفضل القوة العسكرية الهائلة التي حشدها السيطرة على حصن آزوف المطل على نهر الدون خلال عامي 1695 و1696.
نجحت روسيا في الوصول الى البحر الاسود بعد حروب عديدة مع تركيا في القرن السابع عشر
في عام 1711 نجحت تركيا في إرغام القيصر على إعادة منطقة آزوف إلى تركيا بعد أن أخفق قيصر روسيا في مساعيه بإنهاء السيطرة التركية على منطقة البلقان بعد خسارته المعركة الكبيرة على ضفاف نهر بروت الذي يفصل حاليا بين مولدافيا ورومانيا عام 1710.
وفي عام 1735 تحالفت الامبراطوريتان الروسية والنمساوية واندلعت حرب بين الحليفين من طرف وتركيا من طرف آخر حيث نجحت روسيا في السيطرة على مولدافيا التي كانت واقعة تحت السيطرة التركية.
نجحت تركيا في ساحة المعركة لاحقاً وألحقت الهزيمة بالحليفين ونتيجة لموازين القوى على الأرض لم تحقق روسيا شيئاً يذكر في معاهدة بلغراد 1739.
في عام 1768 طلب السلطان العثماني من إمبراطورة روسيا كاترين الثانية الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لبولونيا، فخاض البلدان حربا استمرت ست سنوات ما بين 1768 و1774 حققت فيها روسيا انتصارات كبيرة واستولت على شبه حزيرة القرم نهائيا وبحر آزوف ومنطقة بيسارابيا.
وتمكنت قوات الماريشال الروسي روميانتسييف من اجتياح مولدافيا ووصلت قواته إلى بلغاريا حيث ألحق هزيمة نكراء بالقوات التركية هناك.
واضطرت تركيا إلى طلب إبرام معاهدة سلام جديدة فتم التوصل إلى معاهدة “كوجك كاينارجي” نسبة الى بلدة صغيرة تقع حاليا في بلغاريا عام 1774.
ومن أبرز بنود المعاهدة إقرار تركيا باستقلال القرم عن تركيا ووصول حدود الامبراطورية الروسية إلى نهر بوفي أوكرانيا حاليا. لكن أهم مكسب لروسيا كان الاقرار بحقها في الاحتفاظ بأسطول بحري دائم في البحر الاسود.
كما باتت روسيا تملك بعض السلطة في حماية ورعاية المسيحيين الأورثوذكس، رعايا السلطنة العثمانية في كل منطقة البلقان.
وأصبحت روسيا في موقع أقوى بكثير من السابق بينما كانت السلطنة العثمانية تواجه الكثير من النكسات والتراجعات في أكثر من جبهة. فأعلنت الإمبراطورة الروسية كاثيرين عن ضم منطقة القرم إلى روسيا نهائيا.
وما لبثت أن اندلعت حرب أخرى بين الطرفين عام 1787 وقفت فيها الامبراطورية النمساوية إلى جانب روسيا. فتمكنت القوات الروسية بقيادة الجنرال سوفوروف من السيطرة على نهري دنيستر والدانوب وأرغمت انتصاراته اللاحقة تركيا على إبرام معاهدة “لاشي” عام 1792 والتي تنازلت بموجبها السلطنة العثمانية عن كل الساحل الغربي لأوكرانيا على البحر الأسود.
عام 1806 قام السلطان العثماني بعزل الحكام الروس على مولدافيا وفالاشيا (الافلاق بالتركية حينها) فاندلعت الحرب بين الطرفين مرة أخرى لكنها كانت مجرد مناوشات إذ كانت روسيا تشعر بالقلق من نوايا الامبراطور الفرنسي نابوليون وتخشى توجهه شرقا نحو روسيا.
تمكن القائد العسكري الروسي كوتوزوف من إلحاق هزيمة كبيرة بالجيش العثماني عام 1811
وفي عام 1811، وبينما كانت روسيا تتأهب لحرب طاحنة ضد قوات نابوليون، شن الجنرال الروسي الأشهر كوتوزوف هجوما خاطفاً على الجبهة التركية ونجح خلال عامي 1811 و1812 في إلحاق هزيمة ساحقة بالجيش التركي وأرغم السلطنة العثمانية على إبرام معاهدة بوخاريست عام 1812 تنازلت بموجبها تركيا عن منطقة بيساربيا برمتها لروسيا.
وبعد أن ضمنت روسيا سيطرتها على كل الساحل الشمالي للبحر الأسود كان هدف حروبها اللاحقة يتمثل في تعزيز نفوذها في منطقة البلقان والحد من نفوذ تركيا والسيطرة على مضيق الدردنيل والبوسفور والتوسع في منطقة البلقان.
وخلال الحرب بين الطرفين عامي 1828 و1829 سيطرت روسيا على بلغاريا والقفقاس ووصلت إلى شمالي غربي منطقة الأناضول التركية فسارعت تركيا الى طلب إبرام معاهدة سلام فتم التوصل الى معاهدة أدرنة عام 1829 وضمنت روسيا بموجبها السيطرة على الساحل الغربي أيضا من البحر الاسود كما اعترفت تركيا بالسيادة الروسية على جورجيا وجزء من أرمينيا الحالية.
وما لبثت أن اندلعت حرب القرم الأولى عام 1853 واستمرت ثلاث أعوام وانتهت بمعاهدة باريس عام 1856. نشبت الحرب بسبب مطالبة روسيا بالوصاية على الرعايا الاورثوذكس في السلطنة العثمانية وعلى رأسهم مسيحيو فلسطين. فوقفت بريطانيا وفرنسا الى جانب تركيا في الحرب ضد روسيا. ورغم خسارة روسيا الحرب لكن معاهدة باريس التي انهتها سمحت لها بالاحتفاظ بأغلب المساحات الشاسعة التي احتلتها في حروبها السابقة ضد تركيا.
وبعدها بأثنين وعشرين عاماً اندلعت حرب القرم الثانية وآخر الحروب بين روسيا والسلطنة العثمانية وأهمها على الاطلاق وانتهت بهزيمة مدوية للأخيرة.
وفي عام 1877 وقفت روسيا وحليفتها صربيا إلى جانب المتمردين على السلطنة العثمانية في البوسنة والهرسك وبلغاريا حيث هاجم الروس بلغاريا فوصلت قواتهم الى مدينة ادرينابول ( أدرنة حالياً) الواقعة حاليا على الحدود بين اليونان وبلغاريا وتركيا عام 1878 وكالعادة أبرمت تركيا معاهدة جديدة من موقع المهزوم والضعيف وعرفت بمعاهدة سان ستيفانو.
وبموجب المعاهدة الجديدة تنازلت تركيا عن رومانيا وصربيا والجبل الأسود لتستقل هذه الدول، بينما حصلت البوسنة والهرسك على الحكم الذاتي. كما حصلت بلغاريا على الحكم الذاتي وتمتعت بالحماية الروسية.
وبينما كانت الإمبراطورية العثمانية تعاني المزيد من الوهن والضعف اعترضت بريطانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية على بنود المعاهدة وأجبرتا روسيا على التخلي عن جزء كبير من المكاسب السياسية والجغرافية التي حققتها بموجب المعاهدة إذ شعرتا بالقلق البالغ من اتساع رقعة روسيا ونفوذها فتم استبدال معاهدة سان ستيفانو بمعاهدة برلين 1878.